من يضع قواعد جديدة للسوق: منظمة أوبك بقيادة السعودية، أم النفط الصخري؟ (1/2)

دخلت منطقة الشرق الأوسط في قلب الأحداث العالمية منذ النصف الثاني من القرن العشرين، أبرزها وجود النفط السلعة التي أصبحت المحرك الرئيسي لعجلة الصناعة والاقتصاد في العالم، يعتقد البعض أن هذه السلعة التي تسابقت من أجلها دول العالم، وتسببت في إشعال حروب وصراعات، أدت إلى بروز قوى وخمود قوى أخرى توشك هذه السلعة على أن تغادر المسرح العالمي أو على الأقل تتوقف عن لعب دور البطولة في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين.

منذ أن اكتشف النفط في العقد الخامس من القرن التاسع عشر وحتى الآن لم تحظى سلعة مثلما حظيت سلعة النفط، وكان القرن العشرين قرن النفط بامتياز بعد إزاحته الفحم بصفته مصدرا رئيسيا للطاقة منذ أواسط عقد التسعينات من القرن العشرين، واعتبرت الفترة الفاصلة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وعام 1973 العصر الذهبي للنفط بعدما زاد الطلب على النفط بأكثر من ستة أضعاف خلال فترة الخمسة والعشرين عاما بين 1948 و 1973 وارتفعت احتياطياته الثابتة بعشرة أضعاف كان مدفوعا بنمو عالمي تجاوز 8 في المائة سنويا وزيادة عدد السيارات بخمسة أضعاف وعشرة أضعاف في أوربا والنقل الجوي بثمانية أضعاف.

تم الاهتمام بطبيعة النفط بصفته موردا ناضبا، رغم ذلك ازدادت حدة تقلبات أسعار النفط خلال العقود الثلاثة الأخيرة بحدة التقلبات في أسعاره، وزاد الاهتمام بآثاره البيئية المحلية والكونية خصوصا خلال العقد الأخير.

اكتسب النفط هالة إعلامية وسياسية وثقافية لم تحظ بها سلعة أولية أخرى وأصبح في صلب اهتمام الباحثين في الاقتصاد والسياسة والمال والفكر الاستراتيجي وغيرها، هذا علاوة على اهتمام الحكومات والمنظمات الدولية الاقتصادية والسياسية، لكن في المقابل كان الاهتمام العربي في مجال الإنتاج البحثي في مجال النفط وعلاقاته محدودا، خصوصا مواجهة ما سمي بأمن الطاقة في الدول الصناعية وتقليص الاعتماد على نفط الشرق الأوسط وكل البحوث العربية كانت مجرد ردة فعل للاهتمام العالمي الذي ارتبط بالأزمات السياسية في المنطقة وتأثيرها على إمدادات النفط وأسعاره.

هناك فجوة نشأت بين الحقائق العلمية وأساسيات السوق من جهة وبين الانطباعات العامة والتغطيات الإعلامية والسياسات الحكومية من جهة أخرى، خصوصا وأن التوجه العام بعد الأزمة المالية العالمية هو بطء في نمو الطلب على النفط عموما، وتركز ذلك النمو في الدول النامية وانخفاض في إنتاج النفط التقليدي من خارج أوبك، لكن هناك زيادة في إنتاج غير التقليدي منه بوتيرة أسرع.

توقيت ذروة إنتاج النفط عالميا تعتمد في الوقت الحاضر على تغيرات كثيرة أهمها التقدم العلمي والتقني جعلا الاستثمار في النفط غير التقليدي مجديا، ما يعني أن توقيت الوصول إلى ذروة الطلب على النفط ينطلق من المكاسب في كفاءة الاستهلاك في القطاعات المستخدمة كالصناعة والنقل الذي يمكن أن يؤدي إلى انخفاض الطلب على النفط ما بين 4-6 ملايين برميل يوميا، كما التقدم التقني وانخفاض التكلفة في إنتاج النفط التقليدي.

تداعيات انخفاض أسعار النفط في منتصف 2014:

قد تتسبب تداعيات انخفاض أسعار النفط منذ منتصف عام 2014 في حدوث انخفاض في الإنتاج العالمي بحجم يراوح بين ثمانية و11 مليون برميل خصوصا بعدما حذر تقرير ل (ذا إنجري كولكتيف) من أن صناعة النفط قد تشهد عجزا في مرحلة ما في المستقبل وذلك وفقا لشركة فلين المعنية بدراسة الطاقة التي تقدر استثمارات الاستكشافات النفطية بنحو تريليون دولار التي ما زالت تعاني تداعيات نتيجة خفض أسعار النفط الحاد في منتصف عام 2014.

رغم أن التقرير يقلل من أهمية تراجع المعروض بسبب ضعف الاستثمارات قد يكون مبالغا فيه نتيجة استمرار التنسيق بين السعودية وروسيا اللذين يستطيعان مع بقية المنتجين إعادة 1.8 مليون برميل يوميا إلى المعروض العالمي إذا وجدوا ظروف السوق مهيأة لوقف خفض الإنتاج.

قدرة أوبك بقيادة السعودية وروسيا على مواجهة الطفرة المتزايدة:

موجة صعود الأسعار بشكل حاد تجاوز خام برنت 70 دولار في منتصف مارس 2018 وهو مستوى قياسيا في الصعود لم يكن متوقعا بسبب بعض الشكوك التي أثارها البعض حول قدرة أوبك بقيادة السعودية وروسيا على مواجهة الطفرة المتزايدة والمستمرة في الإنتاج الأمريكي خصوصا أن هناك نمو على استهلاك النفط العالمي 1.7 مليون برميل يوميا هذا العام 2018 بعد تباطؤ بنحو 1.5 مليون برميل عام 2017.

وعلاقات السعودية بالولايات المتحدة تجاوزت مبيعات النفط كما في العقود الثمانية الماضية، خصوصا بعدما أصبحت الولايات المتحدة تستورد نفطا أقل من الخارج بعد الزيادة الكبيرة في النفط الصخري والذي يجعلها تتخطى السعودية وروسيا هذا العام 2018 إذ هبطت الواردات السعودية من النفط إلى الولايات المتحدة من 1.015 إلى 795 مليون برميل يوميا في يونيو 2017 انخفضت إلى 563 مليون برميل في أكتوبر 2017 وهي الأقل منذ عام 1988 وهي نصف ما استوردته أميركا من السعودية في عام 2016.

تجمع السعودية بأميركا شراكات متعددة في الطاقة ومصالح أخرى لقطاع النفط، حيث يهم البلدان استقرار السوق النفطية، كما أن أرامكو تمتلك أكبر مصفاة في الولايات المتحدة وهي مصفاة موتيفا في بروت آرثر التي تبلغ طاقتها التكريرية فوق 600 ألف برميل يوميا، وأعلن وزير الطاقة الأميركي ريك بيري أن الولايات المتحدة لن تأخذ موقفا عدائيا تجاه الوقود الأحفوري، خاصة أن هناك العديد من الدول النامية في العالم تحتاج للطاقة الرخيصة والنظيفة، وأكد تقرير فوربس الأمريكي أن السعودية تدعم تخفيضات الإنتاج على نحو قوي، وترى فيها الوسيلة الأكثر فاعلية لسرعة تعافي وتوازن السوق.

رؤية السعودية أن تبقى الأسعار مرتفعة بالشكل الكاف الذي يمكن من تحفيز الاستثمارات في مجال الاستكشاف والتنقيب مرة أخرى من أجل تجنب حدوث تراجع في المعروض النفطي على المدى الطويل بسبب ضعف الاستثمارات ونضوب الحقول القائمة، تلك الرؤية تقنع المنتجين الأمريكيين لارتفاع أسعار النفط الخام هي أقل بالفعل مما تتوقعه مؤسسات مالية دولية، وأن نمو الطلب قادر على تعويض زيادات الإنتاج الأمريكي.

أعلن معهد البترول الأميركي هبوط مخزونات النفط في الولايات المتحدة 11.2 مليون برميل في يناير 2108 فاق توقع المحللين أن يكون هبوط مخزونات النفط في الولايات المتحدة عند 3.5 مليون برميل، وتعتزم واشنطن بيع نصف الاحتياطي الاستراتيجي والتخلص من نحو 100 مليون برميل بحلول عام 2027، فإن إجمالي الاحتياطيات سيتراجع بنسبة 45 في المائة أو بمقدار 303 ملاين برميل، وتلك المخزونات يتم الاحتفاظ بها داخل شبكة من الكهوف وخزانات تحت الأرض على طول ساحل الخليج الأمريكي، ويبلغ طاقته 700 مليون برميل، ما يجعله اكبر إمدادات للخام في العالم، ويبلغ فائض مخزونات النفط حاليا 2018 بنحو 52 مليون برميل فوق متوسط السنوات الخمس، بانخفاض حاد من 264 مليون برميل في 2017.

 خصوصا بعدما انخفضت واردات الولايات المتحدة إلى أقل من أربعة ملايين برميل يوميا مقابل مستوى قياسي مرتفع بلغ 12.5 مليون برميل يوميا في عام 2005 بعدما ارتفع إنتاجها إلى 10.59 مليون برميل في منتصف مارس 2018 فيما ارتفعت واردات الصين بلغت 9.57 مليون برميل في يناير 2018.

لكن تبقى الولايات المتحدة منتجا متذبذب المستوى ولن تحقق اكتفاء ذاتيا في الطاقة، وهناك تقرير صادر من شركة كونوكو فيلبس النفطية الأمريكية أن الولايات المتحدة ستصبح على الأرجح منتجا متأرجح المستوى في سوق النفط العالمية، ولن تستطيع وحدها تحقيق الاكتفاء الذاتي والتحول إلى منتج مستقل.

هناك إجماعا ضئيلا حول إلى أي مدى يمكن لإنتاج النفط الأمريكي أن يرتفع، إذا تمكن النفط الصخري وحده من كسر حاجز 12 مليون برميل يوميا كما يقترح البعض أي أكثر من ضعف مستوياته الحالية، ومن يراهن على هذا النمو يدلل بأن محللي السوق أخطأوا عند التقليل من قدرات النفط الصخري على النمو في الماضي واليوم يمكن أن يصل إلى ذروته قريبا.

لكن البعض الآخر لا يزال يشكك في القدرة الإنتاجية للنفط الصخري الأمريكي وحتى الآن الإنتاج غير مفهوم بصورة كاملة، خصوصا وأن الصناعة النفطية تعمل جاهدة على تقصير دورة تطوير الحقول على نحو شامل لجعل الإمدادات العالمية أكثر سرعة واستجابة لمتطلبات السوق، ولكن لا يزال النفط الصخري أسرع مصدر للإمدادات الجديدة، ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان هناك ما يكفي من الطاقات التي يجري تطويرها للتغلب على أي نقص كبير محتمل في المعروض إذا لم يتمكن النفط الصخري من تولي زمام المبادرة سواء على المدى المتوسط أو على المدى البعيد، من أجل تجنب صدمة العرض، خصوصا مع عدم اليقين الشديد، مهما كانت الاحتمالية ضئيلة، يجعل على المنتجين الآخرين الاستجابة خصوصا دول أوبك وبقية المستقلين.

كذلك هناك تقريرا أكد فيه أن صناعة النفط في الولايات المتحدة ما زالت شديدة الحساسية لتقلبات الأسعار على المدى القصير، حيث تعتبر تقلبات الأسعار بمنزلة الترمومتر المتحكم بالفعل في إنتاج آلاف من الآبار الصخرية، وكان نصيب النفط الصخري من تراجع الأسعار الحادة في منتصف عام 2014 جعله يدخل في دوامة سلسلة من الإفلاسات نتيجة ارتفاع تكلفة الإنتاج، وكاد يخرج من المنافسة لولا أوبك بقيادة السعودية والتعاون مع روسيا وبقية المنتجين المستقلين التي قدمت طوق نجاة للنفط الصخري الأمريكي، لخرجت صناعة النفط الصخري من المنافسة، جعلت هذه الصناعة تعود للإنتاج مرة أخرى، ونجح في خفض تكلفة الإنتاج إلى الثلث على الأقل أي أن كثير من الشركات الأمريكية استطاعت تخفيض التكلفة إلى نحو 30 دولار للبرميل، كما نجحت الشركات  في مضاعفة الإنتاج في كل بئر سمي بالتوسع في الإنتاج رأسيا بتعظيم القدرات الإنتاجية.

هنا السؤال من يضع قواعد جديدة للسوق هل أوبك أم النفط الصخري، خصوصا وأن أوبك بحثت بشكل جاد منذ منتصف عام 2014 عن تشكيل قواعد جديدة للسوق، لكنها اصطدمت بالنفط الصخري الذي جعلها تنتظر في وضع قواعد جديدة للسوق حتى تتضح الصورة وقررت أن تنتظر وتراقب النفط الصخري وهي تتوقع أن النفط الصخري لن يصل إلى مستوى إنتاج قد لا يتحقق أبدا خصوصا وأن وكالة الطاقة الدولية تتوقع أن يرتفع إنتاج النفط الصخري الأميركي إلى مستويات 8.5 مليون برميل يوميا بحلول عام 2025 مقارنة بنحو أربعة ملايين برميل يوميا حاليا.

 لكن نجد مات روجرز من هيئة الاستشارات ماكينزي يقول العالم بعد عشر سنوات سيبدو مختلفا، سيبدو الأمر كأننا نعيش في حرب نجوم مقارنة بالوضع الذي نعيشه الآن خصوصا فيما يتعلق بالرهان على زيادة الإنتاج في الحقول الرخيصة بعد استخدام التكنولوجيا الرقمية التي ستقود إلى تطور نوعي في الحقول النفطية التقليدية، وفي نفس الوقت أوبك بقيادة السعودية لا تزال تمسك بزمام السوق، حتى تمنع انهيار السوق مثل انهيار السوق عندما قررت أوبك التخلي عن قيادة السوق في عام 2014 ما عجل بانهيار أسعار النفط.

وعلى الرغم من كل التحديات الراهنة فإن السوق تحقق بها الكثير وهي أقرب إلى حالة التوازن بسبب نمو الطلب بالتوازي مع نمو الإنتاج الأمريكي، أي أن السوق يتطلع إلى الشكل الجديد لتعاون المنتجين في أوبك وخارجها وذلك مع بداية العام 2019 كما أعلنته السعودية.

وأكدت أوبك أن الاتجاه الصعودي للأسعار سيجعل عام 2018 عام العمل المكثف لتقوية الجهود الرامية إلى دعم التعاون والعمل المشترك من أجل توطيد دعائم السوق واستعادة الاستقرار الكامل المستدام، وظروف السوق الحالية تهدف إلى زيادة عدد المنتجين الموقعين على إعلان التعاون التاريخي من أجل خفض كميات النفط الخام المعروضة في السوق يوميا، خصوصا الدول التي لم توقع بعد على اتفاق خفض الإنتاج لبحث مدى إمكانية انضمامها إلى الدول الـ 24 الموقعة على اتفاق خفض الإنتاج.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق