الانحياز إلى السلطة: إشكاليّةٌ في الثقافة العربيّة

نشارف على مرور عقدٍ كاملٍ من الثورات والثورات المضادّة في العالم العربي، قادت إلى انكشاف كثيرٍ من الخلل البِنيَويّ في الثقافة العربية، فالخلل أو بالأصحّ الإشكاليات البِنيَوية المُستعصِية، تتعدّى قضية إسقاط نظامٍ تسلّطي، أو مواجهة فسادٍ مستشرٍ، أو تصحيح خطابٍ متطرّف، إلى أسسٍ تهدّمت، أو أنّها كانت مختلّة في أصلها، وذلك في بِنيَة الثقافة العربية ما بعد الاستقلال، وما يُطلَق عليه ثقافة الحداثة العربية.

صحيح أنّ المصطلح قد يبدو غير متطابقٍ مع واقع الحال في الدول العربية طيلة القرن الماضي، لكنها فترة الحداثة التي أخفق العرب في اغتنامها، وظلّوا عالقين في محاولة تأطيرها بما يتناسب مع توجّهات السلطات الضابطة القمعيّة (ويمكن تجاوزاً أن تُوصَف بالقروسطية)، فيما تقدّم الآخرون إلى ما بات يُعرف بمرحلة ما بعد الحداثة.

وهنا الحديث ليس عن بُعدٍ ثقافيٍّ أو سياسيٍّ فحسب، بل عن بُعدٍ حضاريٍّ شامل، عدا عن أنّ الحديث ليس عن مثقّفي السلطة الذين يُسخِّرون نشاطهم الفكري لقاء منافع من السلطة، بل عن أولئك الذين هم خارج السلطة ويرون أنّها تعبير عنهم (وكأنّها سلطتهم).

فإحدى كبرى تلك الإشكاليّات، والتي يمكن اعتبارها محوريّةً يلتفّ حولها كثيرٌ من الإشكاليّات والقضايا الأخرى، يكمن دور المثقّف العربي، ونقصد به المثقّف الحقيقي، الذي حاز من المعرفة ما يؤهّله لهذا الوصف، وحاز من الأدوات ما هو ضروري للقيام بدوره المجتمعي، وحاز من النشاط والإنجاز المعرفي (بكل أشكاله) ما يجعله يستحقّ مكانته كمثقف.

أن ينحاز هذا المثقّف، ذو الوعي المعرفي والدور المجتمعي، إلى السلطات العربية، رغم كل إخفاقاتها في بناء الدولة وإدارتها، وأن يأتي هذا الانحياز على شاكلة “رابطة تضامن” بين السلطات العربية ومثقّفيها، فإن ذلك يحمل كثيراً من المضامين التي تحيل بالمحصّلة إلى أنّ النخب العربية -على هذه الشاكلة- مسؤولة هي أيضاً -بالتضامن- مع السلطات في إخفاقاتها، بل وحتّى في جرائمها.

ولعلّ من أبرز ما يبرِّر به هؤلاء المثقّفون انحيازاتهم نحو السلطات العربية، هو البحث عن استقرارٍ ظاهريٍّ ومؤقّتٍ تُوفِّره الاستبداديات أو حتّى الأوتوقراطيات العربيّة، متجاهلين -عن عمدٍ- أنّ هذا الاستقرار هو قمعيٌّ يقود إلى تراكم الأزمات وتحوّلها إلى خللٍ بِنيَويٍّ يقود ليس إلى انهيار النظام وحده، بل إلى انهيار الدولة ذاتها وفشلها.

ولعلّ المثقف هنا يحصر رؤيته -متعمِّداً أيضاً- بالبعد الزمنيّ القصير، القائم على منهجية الجزر المنعزلة، بحيث يُبرز بعض الإنجازات المُقتَطَعة عن سياق الإخفاق العام، كتبرير واهٍ أيضاً. بل ويرى بعضهم أنّه يجوز التطاول على قضايا حقوق الإنسان والهوية الوطنية -بمصطلحاتهم: تجاوزها مؤقتاً- لصالح هذا الاستقرار المُتَخيّل.

لسنا نبحث عن تأصيل أنثروبولوجيّ، لكن هذه الظاهرة/الإشكاليّة، هي جزءُ من إشكاليّة الثقافة العربية في جذرها، سواء ببُعدها السياسيّ أو الدينيّ، القائمة على أن الدولة هي السلطة (أو أنّ السطلة هي الدولة، ويجوز الوجهان هنا)، وأنّ المجتمع هو الرعيّة -التي ترعاها السلطة، سواءً بمعنى ترعاها أو تسوسها- لذا فإنّ غالبية هؤلاء المثّقفين ينحدرون من مدارس إسلامية أو قومية يمينية.

ليلتقي خطابا اليسار والليبراليّة العربييّن معاً -في لقاء غير مألوفٍ وفي زمنٍ غير مألوف- حول خطاب مثقّفين مناهضٍ لهذا الخطاب التسلطيّ، حيث أنّهما وحدهما أصحاب المنفعة الإنسانية المقبولة في تحطيم السلطات العربيّة -وليس الدولة العربيّة كما يتمّ تصويره- وبالتالي فإنهما التعبير عن الثورات العربية، أو الامتداد المثقّف لهما، أو الحاضن النخبوي لهما.

لكن مع التنبيه أن هذين الخطابين بعيدان عن أولئك المؤطّرين أيديولوجياً بأحزاب اليسار المتحالفة مع السلطة حتّى التماهي، أو تلك النخب الاقتصادية التي حازت ثروات هائلة بانخراطها مع السطلة في قضايا الفساد في محاولة لتصويرها بأنّها الليبرالية العربية.

ويمكن أن ينساق معهما قليلاً، بعضٌ من اتّجاهات الإسلام السياسي، لكنها في الأساس تمتلك في جذرها الثقافي تلك السلطويّة، وتمّ ليّ عنق الديموقراطيّة في تعديلاتها الثقافيّة اللاحقة، لتتناسب مع وصولهم “ديموقراطياً” إلى السطلة، وليس لرحيلهم عنها إن أمكن.

ويكمن الانفكاك بين هذه الخطابات المناهضة للسلطة مع الإسلامية أيضاً، حين يتمّ تصوير العلمانيّة بأنّها مضادّة للثقافة العربية، أو أنّها تعني حتماً الإلحاد أو معاداة الإسلام حتماً، ويأتي هذا التصوير من قبل متشدّدي الطرفين، حيث يحاول الأول التأكيد على هذا من خلال خطاب ينفكّ عن الحضارة العربية الإسلامية عوضاً عن ترميمها والارتقاء بها، ويأتي الخطاب الآخر ليستند إلى ذلك في إيغاله في استحضار موروثٍ ثقافيٍّ وسياسيٍّ وحضاريٍّ -وليس دينياً- ما عاد مناسباً بالمطلق في حالة نكوص تاريخيّ.

وهنا تبدو دائرة المثقفين المنحازين إلى السلطة واسعة جداً، سواء أكان الانحياز لأن السلطة هي سلطتهم، أم كان لأنهم مثقفو سلطة، في مواجهة أقليّة مثقفة هي وحدها من يحاول الخروج عن هذا الضبط العنفيّ، في حين أنّها متّهمة بدورها بالانعزالية على الذات، والمبدأية المفرطة أحياناً، حتى أنّها أخفقت في ولوج كثير من تيارات المعارضة ما سمح للفئات الانتهازية التسلّط على بعض نشاط المعارضة أو كثير منه في العالم العربي.

وتبقى السلطات العربية -حتى الآن- الأكثر قدرة على تجيير الثقافة وتياراتها الأربعة (الليبرالية، الماركسية، الإسلامية، القومية)، وتحويلها إلى أداةٍ في حوزتها لتحصين مكاسبها.

 

 

د. عبد القادر نعناع

باحث سوري

 

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق