أثر المَهَاجِر الغربية في خطابات الأكثرية والأقلية عربياً

واحدة من أكثر إشكاليات الهوية في العام العربي، هو ذاك الانقسام الهويتي الإثني، الناشئ عن عجز الدولة الوطنية في بناء هوية جامعة، توفِّر الحد الأدنى من الإحساس بالأمان السيكولوجي/النفسي، وتشكل عامل استقرار يمكن الفرد من الانخراط الفاعل في بناء على قاعدة التشارك مع الكل، وليس على قاعدة الانغلاق على الذات الإثنية العصبوية.

ولعل ثورات الربيع العربية، الكاشفة لحجم الانهيار في بنية الدولة العربية وهويتها -الجمهوريات بشكل أكثر مأساوية-، ساهمت في تعزيز عملية الانكفاء على الذات، أثناء البحث عن هوية حمائية بديلة للهوية الوطنية التي انهارت في عديد من نماذج الثورات، بمجرد إطلاق أول رصاصة تجاه المحتجين.

طبعاً، هنا نقصد بانهياره الهوية الوطنية الجامعة، أنها لم تعد هوية متأملة (أو متخيلة حتى) إلا لفئة نخبوية كانت وتظل ساعية إلى محاولة إعادة بناء الدولة العربية، وفق أسس هويتية أقرب ما تكون من الدمقرطة، وإن كانت دمقرطة الدول العربية (الثورية) باتت في غالبيتها أبعد مما كانت عليه عام 2011.

وتتعدد أسباب هذا الإشكال، وإن كنا نرى أن المسبب الرئيس والأول، يبقى الأنظمة الحاكمة الفاشلة، التي أخفقت في بناء الهوية الجامعة لأسباب عدة:

  • إما أنها حكومات أقليات تسلطية، هدفت إلى تحويل الجميع إلى أقلية (ولو نفسياً)، وبالتالي تفكيك الهوية الجامعة التي كانت تعني حتماً فقدان قدرة الأقلية التسلطية على التحكم بالمجموع.
  • أو أنها حكومات عسكرية قلقة دوماً -وهي طبيعة الحكومات العسكرية-، وتخشى وجود وعي هويتي جمعي، قد يدفع إلى الإطاحة بها سلمياً، أو حتى انقلاباً على شاكلة وصولها هي إلى السلطة.
  • أو أنها مجرد حكومات فاشلة، لم تمتلك مستوى كافٍ من الوعي والمسؤولية لبناء الدولة.
  • أو أنها حكومة كلبتوقراطية، أو حكومة اللصوص والفاسدين، والتي هدفت إلى إفساد الجميع، لضمان مصالحها الشخصية.
  • بل والأنكى، أن غالبية الحكومات/الأنظمة العربية التي استهدفتها الثورات، هي حكومات/أنظمة جمعت بين كافة الأشكال السابقة.

 

لكن تحميل الحكومات/الأنظمة العربية وحدها مسؤولية انهيار الهوية الوطنية الجمعية، هو نوع من الهروب من المسؤولية الذاتية، وإنكار وجود أس ثقافي مترسخ في بنياننا المعرفي، لم نعمل كشعوب على تجاوزه، بل حاولنا الاستفادة من سلوك الأنظمة، في تعزيز خطوط الفصل الإثنية (العرقية، والدينية، والمذهبية، والطائفية، والجهوية، والعشائرية، …)، بل واندفعت الأغلبية في عديد من الدول العربية، إلى الاصطفاف الإثني، والتصرف وكأنها أقلية في حالة دفاع عن النفس، ودفاعاً عن الهوية التي تم تصويرها بأنها هوية مهدّدة بالزوال، تماماً كما ساقت الأقليات الإثينة طروحاتها، وخصوصاً كما فعل سنة العراق وسورية، والبحث عن الدولة الدينية المتخيلة البديلة، وبغض النظر عن الأطروحات المشوهة التي تجعل من سنة العراق أقلية.

في هذه الصورة، ورغم تحول الأغلبية إلى المنطق الأقلوي الإثني، والعمل وفق محدداته، إلا أنها فقدت بذلك إمكانية تحقيق أي إنجاز لها، كما فعلت بعض الأقليات، وذلك بسبب:

  • في وجود تعداد كبير للجماعة الأكثرية، فإن الرابطة العصبوية تكون مرنة (رخوة)، غير قادرة على توحيد الجميع حولها، كما لدى الأقلية صغيرة الحجم، وهو ما جعل هوية الأكثرية سائبة غير منضبطة، في ظل سلوك أكثري دفاعي، أظهر بالمحصلة عدة خطابات وجماعات ضمن الأكثرية.
  • تخلت بذلك الأكثر عن دورها في بناء الهوية الوطنية الجامعة، وعززت مخاوف الأقليات، بخطابها القلق المستقى من أسس الخطاب الأقلوي، وأوحى بهذه الطريقة بـ “صحة” الخطاب الأقلوي.
  • وحيث أنها الأكثر عدداً، فإن تشتتها إلى جماعات داخل الجماعة الأم، أثار مزيداً من الشك في القدرة على استعادة دورها المفترض/المتخيل في بناء الأمة/الدولة.

وحيث أن كثيراً من الجماعات الفرعية ضمن الجماعة الأكثرية، في ظل حالات التأزم الوطني الكبرى، رفضت الانفتاح على الآخر الإثني، أو العمل معه، أو محاولة القيام بدور أكبر من الدور الإثني، فإنها ساهمت، دون قصد، في تعزيز سلوك الأقليات، والذي كان يشتغل في الأساس على اتجاهات:

  • تحالف الأقليات في مواجهة الأكثرية.
  • الاستعانة بقوى خارجية ضد الأكثرية.
  • العمل على تفكيك الدولة إن أمكن ذلك، إلى كيانات فدرالية/كونفدرالية، تحضيراً لفصلها لاحقاً.
  • العمل على ضرب الثقافة الهويتية التي كانت سائدة، ومحاولة النيل من ثقافة الأكثرية، القومية أو الدينية، من خلال تصويرها بأشكال متطرفة، ليس آخرها اتهمها بأنها هوية “داعشية”، بهدف نزع شرعيتها السياسية.

هذه الصورة من الانفصال الهويتي، قبل الانفصال الجغرافي، تختلف تماماً في حال تم نقلها إلى المهاجر، وخصوصاً أن الثورات التي أتت رداً على إخفاق الأنظمة العربية في إدارة الدول، ومن ثم -ولأسباب كثيرة- ساهمت في مزيد من هذا الإخفاق، أدت بالمحصلة إلى هجرة قسرية أو شبه قسرية، طالت كافة الجماعات الإثنية، وإن كانت دائماً الجماعة المضطهدة هي التي تكون الأكثر تهجيراً (السنة في سورية والعراق على سبيل المثال).

ورغم أن المهاجرين حملوا وإياهم خطوط الانفصال الإثني-الهويتي تلك، إلا أنه وبشكل تدريجياً، بدأوا بتجاوزها أو إعادة صياغتها، لأسباب عديدة، على رأسها، الاضطرار الناجم عن عمليات الإدماج (شبه القسرية كذلك) في المجتمعات الغربية.

المفارقة هنا، أن الخطاب الأكثري المنغلق على الذات، القلق على هويته، الرافض لأي تحديث داخلي، غدا في المهاجر خطاباً مرناً قابلاً للتنازل حتى عن أسس الهوية الأساس، فيما تحول قسم صغير منه إلى خطاب أكثر تطرفاً وانغلاقاً على الذات، وخصوصاً مع إدراكه أنه تحول فعلياً إلى أقلية باتت مطالبة بالحفاظ على هويتها مع الاندماج شبه القسري مع هوية مضادة لها.

في حين أن الجماعات الأقلوية في المهاجر، لم تجد نفسها تحت هذا الضغط، فهي بالأساس كانت تعيش حالة الأقلية القلقة، وفقدت قلقها في المهاجر مع وجود هوية جامعة تتناسب نسبياً مع هويتها، ورغم أنها ظلت مرتبطة عاطفياً بـ “الوطن”، إلا أنها باتت أكثر قدرة على نقد/وتحطيم الخطاب الأكثري، والعمل من الخارج على تعزيز طروحاتها السابقة.

أي أن الخطاب الأقلوي المهاجر يأتي استمراراً ودعماً للخطاب الأقلوي المحلي، في حين أن الخطاب الأكثري المهاجر بات في غالبيته على قطع مع خطاب الداخل الأكثري (إثنياً وليس ساسياً، وإن كان انفكاك في الخطاب السياسي يتبلور تدريجياً باتجاه القطع كذلك).

ورغم صحة كثير مما تسوقه الأكثرية من وقائع حول دور الأقليات في تفكيك/تحطيم الهوية الوطنية، إلا أنها دون تحمّل مسؤولية إخفاقاتها هي أيضاً، باعتبارها الحاضن الاجتماعي والسياسي الأكبر، فإن مزيداً من التفكيك سيظهر حتى ضمن خطاب الأكثرية ذاته.

 

 

د. عبد القادر نعناع

باحث سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق