معارك الغوطة وتصحيح المسار الثوري التحرري

مع مطلع عام 2018، كانت الثورة السورية قد مُنِيت بخسائر جمّة، وضعتها في أسوأ مراحلها، وهدّدت بوأدها، سواءً نتيجة خذلان خارجي عربي ودولي، أو سوء تدخّلٍ (متعمَّد أو جاهل). أو نتيجة عوامل داخلية متعلّقة بسوء إدارة وفساد واختراق وتجريب فردي وجهل، إلى جانب إخفاقات طبيعية في ظلّ الضغوط الخارجية، عدا عن استنزاف كبير في الحاضن البشري –وخصوصاً المتعلّم- الذي فرّ سريعاً من المواجهة المسلّحة التي أطلقها نظام الأسد، إذ لم يكن يخطر ببال هذا الحاضن –الفاعل الجديد/الشباب- أنّ المواجهة ستكون بهذا العنف، ولم يكن متحضّراً لها من جهة، عدا عن تعمّد النظام تعجيل المواجهة المسلّحة، فهي الوسيلة التي يجيدها، ويتحضّر لها منذ سنوات داخل حاضنه العلوي.

لم يكن المشهد مطلع عام 2018 يوحي بأنّ مقبل الأيام سيكون جيداً، وهو ما شجّع الاحتلالين الروسي والفارسي عبر عميلهم (نظام الأسد)، إلى الانتقال خطوة إضافية في مواجهة أهمّ حاضنة ثورية (والأشد وضعاً وحرجاً)، عبر استهداف الغوطة الشرقية، في محاولة لتكرار سيناريو حلب الشرقية، وهو ما أوحى في اللحظات الأولى بأنّ الثورة التحررية باتت على وشك الاحتضار، وخصوصا أنّ الحسابات العسكرية (العقلانية) لا تصبّ في صالح الغوطة.

لكن الغوطة قدّمت حسابات إنسانية تحررية، أعلى قيمة من كلّ الحسابات الأخرى، وذلك عبر عدة إنجازات:

بداية من القدرة على استيعاب الهجمة الجوية والصاروخية الشرسة (التي ما تزال قائمة)، وإجبار كل الأمم المتخاذلة على إصدار قرار دولي رقم 2401 (رغم أنّه لم ينفذ حتى الآن)، وهو ما شكّل صدمة كبرى للمعتدي وللدول المتخاذلة والصامتة.

وعادت الغوطة مرة أخرى لتغير الحسابات “العقلانية”، ولتثبت صمودها، عبر رفض أهلها العرض الروسي بإجلاء المدنيين والجرحى، والذي يعني تحقيق مشروع الاحتلال وإحداث تطهير إثني في الغوطة، عدا عن عدم وجود أي ضمانات أو مراقبة دولية تضمن سلامة المهجَّرين، والذين غالباً ما سيتم اعتقال أو تصفية قسم مهم منهم. لكن الأهالي فضّلوا الموت أو العيش جوعى في الملاجئ عوضاً عن تسليم أرضهم.

صمود آخر يُسجّل للغوطة، وهو قدرتها الجبّارة في صدّ الهجوم البري الأول لقوات الاحتلال (متمثِّلة شكلاً بقوات النظام)، حيث أنّ القصف الجوي دون اجتياح بري، لا يمكن له أن يحقِّق أي إنجاز، لكن الصمود الأول في وجه القصف الجوي أتاح الانتقال للصمود والانتصار البري (وإن كانت المعركة ما تزال في أولها).

من تلك الإنجازات كذلك، إعادة طرح مشروع التوحيد العسكري بين القوى المقاتلة داخل الغوطة، وتحديداً بين جيش الإسلام وفيلق الرحمن، جناحا الغوطة العسكرية. فبعد أن أدّى التدخل والاختراق الخارجي للثورة السورية، إلى العبث بالمسار التحرري العسكري، عبر ربط تمويل الحراك العسكري بأجندات ربّما عارضت المسار الثوري، وأدّت إلى مواجهات بين الفصيلين راح ضحيتها المئات من أبناء الغوطة دون ذنب، سوى أجندات التدخل الخارجي، عدا عن إعاقة أية عملية لبناء جيش واحد بقيادة واحدة.

غير أنّ هذه الهجمة الروسية الشرسة، وإيران طرف مشارك فيها، إلى جانب التخاذل الخارجي من قبل الداعمين، وتركهم الغوطة لمصيرها، أدّى إلى تصحيح كبير لناحية تقريب المسافة إلى حدّ كبير بين الفصيلين العسكريين، والعمل معاً في مواجهة العدو الحقيقي، دون الرضوخ لإملاءات خارجية تسعى إلى تحقيق انتصار لنظام الأسد، حتّى تكون بمنأى عن تداعيات انتصار الثورة السورية. ولربّما –وفق ناشطين داخل الغوطة- نرى خلال الأيام المقبلة انتصاراً أكبر من خلال الإعلان عن تشكيل جيش واحد بقيادة واحدة، وخصوصاً أنّ كلا الفصيلين متطابقان في العرق والدين والمذهب والمنطقة والهدف والأيديولوجيا والقواعد المقاتلة، وما اختلافهما سابقاً إلا نتيجة التدخل/العبث الخارجي.

يساعد في ذلك، أن بيئة الغوطة لم تشهد اختراقاً حقيقياً من قبل أجهزة الاستخبارات العالمية (عبر تنظيمي داعش والنصرة)، وما وجود هذه العناصر إلا بشكلٍ محدودٍ للغاية (بضع عشرات)، مقيدي الحركة، تحت رقابة فصيلي الغوطة. أي أنّ العمل العسكري في الغوطة ما زال بيد أبنائها حصراً، وهي قيمة مضافة للعمل العسكري الغوطاني، فالمقاتلون يدافعون عن أرضهم وأعراضهم وعوائلهم التي تحتمي بالأقبية منذ قرابة أسبوعين. بخلاف المناطق الأخرى، التي كان قسم (كبير أو صغير) من المقاتلين يدافع عن مبدأه التحرري فقط، نتيجة أنه التحق بمناطق المواجهة آتياً من مناطق أخرى.

إنجاز آخر يتجاوز حدود الغوطة وطبيعة العمليات العسكرية التي تجري، إذ أدى صمود الغوطة إلى إحياء جذوة الثورة التي كادت أن تنطفأ في عموم المدن السورية، وتحديداً في المدينتين المحتلتين الكبريين (دمشق وحلب)، حيث خرج –ويخرج- عشرات الناشطين يومياً لتصوير منشورات تأييد الغوطة والثورة عموماً، في استعادة روح الثورة الأول، بل يبدو المشهد اليوم أكثر تحدياً من مشهد عام 2011، حيث كان الأمن متراخياً نسبياً في اللحظات الثورية الأولى. وهو ما يؤكّد أن النضال التحرري السوري، لم يعد يأبه بالخذلان العربي والدولي من جهة، ولم يعد ينتظر تدخلاً خارجياً من جهة ثانية، وأنه يتحضّر لدخول الموجة الثورية الثانية –إن صحّ التعبير- مع اختلاف الأدوات والظروف، يساعده في ذلك القضاء على أجهزة الاستخبارات العالمية تقريباً (داعش والنصرة).

لن تكون المعركة سهلة بالتأكيد، فهي المعركة الحاسمة لكلا الطرفين، صاحب الأرض والاحتلال، وإن كان أهل الغوطة قد استنزفوا حتى الرمق الأخير خلال 5 سنوات من الحصار، فإنّ الطرف المعتدي (الاحتلالين الروسي والفارسي عبر عميلهم نظام الأسد)، هم أيضاً قد بلغوا ذروة استنزافهم، ولم تعد لهم قدرة على الاستمرار العسكري، حيث بلغوا التمدد الاستراتيجي الزائد، وما خسارتهم في معارك الغوطة الحالية، سوى إيذانٍ بتوالي الخسائر في صفوفهم سريعاً.

د. عبد القادر نعناع

باحث وأكاديمي سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق