مصطلح ومفهوم الدولة المتبدل إسلامياً

مفهوم أو مصطلح غير معرف أو مفهوم، كثيراً ما يستشهد البعض بحوادث تاريخية تعود غالبها لعصر النبوة، وهذا أمر إيجابي من ناحية معرفة تاريخنا، لكن من ناحية أخرى وتحديداً من زاوية إعادة الرؤية والتفسير التاريخي للأمور من منظور أحادي فقط، يجعلنا نقول إن المستشهد بالتاريخ قد غائب عن الواقع؛ إما لجهله، أو كمحاولة لرفع المعنويات، وهو ما لا يتأتى إلا بنتائج سلبية؛ بسبب الفارق الزمني واختلاف طبيعة المجتمع وتغير المصال.

لكن من زوايا أخرى، ندرك أموراً كثيرة أخرى، فمثلاً عند الاستشهاد غالباً بالعهد النبوي، هذا يعني أن ما بعد العهد النبوي كان فارغاً من ناحية الإنتاج البشري والتجديد الاجتماعي، وكأن الأمر هو مجرد تقليد وتكرار لتلك الفترة والتجربة (النبوية). وحتى لو نجحت تلك التجارب فذلك بسبب تقارب الفترة الزمنية وثبات القوى الاجتماعية وطبيعة المجتمع والتاريخ في وقتها والمشابه لفترة العهد النبوي. وأيضاً يمكن قراءة أمر آخر، أن المستشهد لا يملك رؤية مستقبلية لواقعه فيسعى إلى الهروب باتجاه الماضي.

كثيراً ما أطرح سؤال اًعلى نفسي، عندما يقول لي البعض: إن تاريخنا مليء بالحلول للمشاكل، أو أنه بوصلة نحو الحل، وأن اتباع تلك الحلول يعني أن الحل هو إسلامي أو ذو طبيعة إسلامية. كنت أسأل نفسي حينها: كيف خط النبي حاضره اذاً؟ وبالتالي كيف بنى مستقبله؟

فإذا كان النبي اعتمد على ما سبقه (التاريخ والماضي و التراث)، فهو قلّد إما اليهود أو النصارى أو المجوس، وهذا بهتان. ولكن هو ذهب بعيداً عن ذلك، فقد خط حاضراً واقعياً خاصاً بالجزيرة العربية والبيئة القرشية.

اذاً، فسنة النبي في الحقيقة هي التجديد وعيش الواقع، وليس التقليد و الاتباع (التاريخ أو التراث أو الماضي). فلو كان ذلك، لكنا اليوم إما يهوداً او مسيحيين او مجوساً، وهذا بهتان. فقد أتى بفكرة جديدة وحيدة، سميت الدين، وهي رسالة السماء، وهي ما لا يجوز الخوض ضدها وليس بها (هناك فرق)، وما عدا تلك الفترة، فهو نتاج بشري كان من النبي وصحبه وأعدائه، وغالباً كان ذلك حسب أعراف وتقاليد الجزيرة العربية.

نحن اليوم بعد 1400 سنة، بحاجة لقفزة جديدة بالإنتاج البشري (إنتاج بشري واقعي)، حسب بيئتنا المتوسطية والشرقية، لا بل بحاجة لأكثر من ذلك حسب الطبيعة الأممية العالمية لإنسان اليوم، الذي بات يعيش ضمن القرية العالمية الصغيرة، مفهوم الدولة كمثال كثيراً ما نعتقد نحن المسلمون أنه أمر ديني، وعليه نقول إننا مطالبون بإقامة دولة الإسلام أو المسلمين أو تطبيق الشريعة.

مع أن مفهوم الدولة إلى اليوم غامض إسلامياً، لعدم الخوض بدراسته خارج الباب الفقهي. ومن المعروف تاريخياً أن النبي عند قدومه إلى المدينة أقام دولة المدينة، وهي تعني دولة المواطنة وليس الدولة الدينية، والغالبية متفقة على هذا التعبير أو التوصيف (دولة المواطنة لوجود اليهود ضمن المدينة). وأتى أبو بكر بعده وطوّر مفهوم الدولة نحو مفهوم الفكرة الجامعة (الايديولوجيا)، أو الجماعة المتفقة (المؤدلجين) على فكرة، وليس على العصبة أو القبيلة، وذلك يُرى من خلال من ولّاهم الأمور، ومن أبعدهم عن زمام الأمور (دولة الأيديولوجيا). وذلك يُرى خاصة عند خوضه معاركه (معارك الدولة الأيديولوجية)، ضد رافضي دافعي الزكاة للدولة، مع أن هذه الفكرة لوحدها تحتاج لدراسات مستفيضة خارج الباب الفقهي لنعلم كل شيء عن هذه القضية (منع دفع الزكاة).

بعد أبي بكر، أتى عمر وطوّر مفهوم الدولة نحو مفهوم قريب من مفهوم الدول الصاعدة (الدولة التوسعية)، وليس الإمبراطورية (مرحلة ما قبل الامبراطورية)، أو بداية تشكيلها. وهذا يدل على قوة قراءة الواقع لكلا الرجلين (أبي بكر وعمر)، واستحداثهما ما هو مناسب لتلك الفترة الزمنية. ما يعني أن عقليهما كانا يعيشان واقعهما وليس الماضي أو التاريخ الذي عاشه النبي، والذي كثيراً ما نحاول نحن اليوم أبناء واقعنا الهروب نحوه عند فشلنا بمواجهة الواقع.

عندما أتى عثمان للحكم قام بجمع أقربائه أو مؤيديه أو آل بيته أو فخذه أو عشيرته، أو أية تسمية قد تطلق على هذا الموقف، ووضعهم في المناصب، بمعنى أنه أعاد مفهوم الدولة الواقعية (الحديثة حينها) الذي بناه أبو بكر وعمر، إلى المفهوم العربي القديم (التاريخي): دولة القبيلة أو الأسرة أو العشيرة، وليس كمفهوم أبي بكر (دولة الايديولوجيا)، أو كمفهوم عمر (الدولة التوسعية).

أي أن عثمان قزم المفهوم اعتماداً على عودته للتراث التاريخي (الماضي) للعرب: (نفس المشكلة عندما يطالبنا البعض بالعودة لمفهوم الدولة في العهود القديمة). مما أعطى إشارة مبكرة على تصدع كبير واجه الدولة الصاعدة، انتهى بمقتل قائدها وتصدع كبير للدولة سيستمر لحين سيطرة الأمويين على الحكم، بينما سيبقى مفهوم الدولة متصدِّعاً الى يومنا هذا عندنا نحن المسلمين.

عند استلام علي للسلطة، كان همّه الأول إيقاف الانهيار الداخلي للدولة، وهي نظرة استراتيجية صحيحة، لكن يبدو أن أدوات الواقع والواقع الاجتماعي الذي عايشه لم تساعده. فقد اعتقد أن الناس والمجتمع مازالا حسبما عايشه هو كفرد في مجتمع النبوة. لذلك هناك قول مشهور له، يقوله لأحدهم: ” لقد حكم النبي أمثالي بينما حكَمتُ أمثالك”.

بعد أن استطاع علي القفز فوق العقبة الأولى، وليس حلها أو القضاء عليها، حاول العودة لقيادة الدولة إكمالاً لمسيرة أبي بكر وعمر، بعدما توقفت في عهد عثمان. ولكن فاته -كما قلنا- أن المجتمع والأفراد قد تغيروا. وبالتالي تغيرت مفاهيم قيادة الدولة، وهذا يبدو ظاهراً عند خروج جماعة سميّوا تاريخياً بالخوارج، والذين كانت مطالبهم تتجلى بتغير مفاهيم قيادة الدولة نحو مفاهيم جديدة.

ويمكن التذكير بقولهم الذي اشتهروا به لعلي حول تحكيم حكم الرجال (المطالبة بوجود قواعد دستورية).  بمعنى محاولتهم وضع ثوابت دستورية لقيادة الدولة، لا تقوم على الفرد أو القبيلة أو الامبراطورية أو الأيديولوجيا، بل تتعدى ذلك.

هنا وقف علي امام مفترق طرق، وليس ذلك بالأمر السهل، فيبدو أن مطلب الخوارج كان مطلباً صعباً ومتقدماً على البيئة العربية في الجزيرة العربية في تلك الفترة. و يبدو أن علياً اختار كما سلفه عثمان العودة للتاريخ عندما حارب الخوارج، مانعاً وجود معارضة للسلطة أو وجود مطالبة بإحداث تغير دستوري، فعاد لتاريخ أبي بكر نحو مفهوم دولة الأيديولوجيا، وحارب أي خروج على السلطة والجماعة الحاكمة، ولم يستطيع علي إدراك الأمر  في تلك اللحظة حسبما بدى واضحاً. خاصة أن حكمه ودولته انهارت لاحقاً.

هنا ظهر معاوية الذي التقط العجز في الدولة ومفهومها الحداثي، واعتقد أنه وجد الحل خاصة بعد معايشته الدول الامبراطورية في الشام (الدولة الرومانية)، و لكن تذرع بحجة دم عثمان و ما إلى ذلك. ولكن الهدف كما يبدو هو قيادة الدولة حسب المفهوم الجديد الذي أوجده معاوية حينها (أو اصطنعه لنفسه)، وسيستمر هذا المفهوم حتى العهد العثماني، وهو مفهوم تزاوج دولة الامبراطورية العالمية مع دولة القبيلة العربية، أو الطريقة القبلية للقيادة (الزعامة)، وهو نفس المنطق الخلدوني قبل أن يظهر ابن خلدون، والذي أدركه ابن خلدون لاحقاً وكتب عنه.

معاوية كما يبدو واضحاً، كان ابن واقعه، فلم يعتمد على التاريخ فقط كعثمان قريبه، أو كعلي سلفه. إنما طوّر المفهوم اعتماداً على الزمن الذي عاشه في دمشق بعيداً عن الجزيرة العربية، وبقي مفهومه لقيادة الدولة صالحاً لفترة طويلة، حتى إن الإمبراطورية المغولية اعتمدت على ذلك المفهوم. ومفهومه بالطبع ليس كمفهوم الدولة الامبراطورية الرومانية، بل أدخل عليه تطويراً خاصاً ببيئته العربية (مزاوجة).

قد يكون مفهومه أيضاً تطوير لمفهوم الدولة الفارسية، لكن بالطبع يتعدى ذلك المفهوم لسبب منطقي بسيط؛ وهو أن انهيار الدولة الفارسية قد يكون أيضاً انطلاقاً من توقف تطويرها لمفهوم إدارة الدول، إضافة لتوقف دورها الحضاري. أو حتى وصولها للمراحل النهائية بدورة حياة الدول.

أتى العباسيون بعد الأمويين عبر نفس المفهوم، ولم يزيدوا عليه شيءً، و انتهت دولتهم لعدة أسباب. ثم جاء العثمانيون بعد العباسيين عبر نفس المفهوم، ولم يزيدوا عليه شيءً،
وانتهت دولتهم مع ظهور مفهوم الدولة الحديثة في الغرب، التي لم يتمكن العرب أو المسلمون بعدها من القيام بدولة جامعة لهم، وذلك لخصامهم مع مفهوم الغرب للدولة. مع أن مفهوم معاوية كان نتاجاً عن تزاوج مفهوم غربي مع مفهوم عربي.

لكن رفض العرب -إلى اليوم- تطوير هذا المفهوم، عبر إحداث تزاوج جديد، انطلق من ناحية دينية خاطئة، تقوم على عدم قبولهم أن أبا بكر وعمر ومعاوية عاشوا واقعهم، بينما يصر عرب اليوم على عيش مفهوم عثمان وعلي لإدارة الدولة، بمعنى اعتمادهم على مفاهيم لم تعد مجدية، أو حتى مغلوطة ومنافية للواقع المعاش. لذلك فشل الشريف حسين ومن بعده أولاده بالقيام بدولة جديدة.

وإلى اليوم، نحن حيارى، أو على الأقل، لم نستطع التكيف مع المفاهيم الجديدة للدول، والأهم أننا لم نستطع أن ننتج مفاهيم جديدة فوقها، أو تضاف لمفهوم الدولة القومية أو الدولة الحديثة، بما يناسب واقعنا الحضاري والواقعي.

لهذا السبب نفسه، تفشل فصائلنا المعارضة في سورية على اختلاف طريقة بنائها الأيديولوجي-أبو بكر، التوسعية-عمر، الإمبراطورية-معاوية) وحتى القبلية أو التاريخية (عثمان وعلي)، في الاندماج مع الواقع أو الدولة الحديثة أو الحكومة المعارضة. لذلك نحن بحاجة لمعاوية ابن واقعه وعصره، وليس ابن ذاك الواقع، وليس هناك مشكلة أو تخوف أو رفض إن كان اسمه معاوية، المهم أن يكون ابن واقعه المعاش، وليس ابن التراث أو الماضي أو التاريخ.

هيثم البدوي

باحث سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق