ماذا بعد فشل سياسة احتواء دور طهران في الشرق الأوسط؟

منصب مستشار الأمن القومي في الولايات المتحدة استحدث مع بداية الحرب الباردة ويرأس صاحبه جلسات القضايا المهمة بحضور وزراء مثل الخارجية والدفاع، ومكتبه في جناح الرئيس من البيت الأبيض، ويقدم ملخصات اجتماعاته للرئيس مباشرة.

ماذا يعني تعيين جون بولتين خلفا لماكماستر من قبل الرئيس دونالد ترمب، وهو شخصية معروفة بموقفها المتشددة ويؤمن بمدرسة أمريكا قوية في وقت تصعد روسيا والصين على حساب الولايات المتحدة، بل حتى قوى صغيرة مثل كوريا الشمالية وإيران تهدد أمن الولايات المتحدة ومصالحها وحلفائها.

وقف جون بولتين في اجتماع المعارضة الإيرانية وقال لهم سنحتفل معكم في طهران عام 2019، لكن لم يصغي أحد لتلك المقولة بسبب أنه لا يمتلك منصب في حكومة ترمب في ذلك الوقت، لكن من يتابع إطلالة فوكوياما مرة أخرى صاحب نظرية نهاية التاريخ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي يعود مرة أخرى بنظرية نهاية تاريخ الملالي التي عرضها في فعاليات القمة العالمية للحكومات في دبي في فبراير 2018، هذه المرة يتحدث فوكوياما عن تاريخ لا يتعلق بالأنساق السياسية من رأسمالية أو اشتراكية بل يتصل بالأنظمة الأيديولوجية.

يراهن فوكوياما بأن إيران ماضية قدما في طريق الانفجار بناء على معالم إيران وملامحها الداخلية الغير مستقرة بدءا من الأوضاع الاقتصادية، فالعملة الإيرانية هبطت وتخطت سعر صرف الدولار أعلى من 50 ألف ريال أي خسرت ربع قيمتها خلال 6 أشهر واستمر اتساع الهوة مع سعر الصرف الرسمي الذي بلغ 37686 ريال في 26/3/2018 خاصة مع ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب إلى 28.8 في المائة في 2017 مع غموض في المستقبل بسبب أن الإجراءات الاقتصادية صعبة.

تشير البيانات الرسمية إلى أن 35 في المائة تحت خط الفقر، بينما تؤكد المعارضة أن تلك النسبة خادعة، إذ أن ما لا يقل عن 43 في المائة من الإيرانيين يعيشون تحت خط الفقر، حتى أصبحت السيولة في المصارف الإيرانية محدودة ومن يطلب نحو 300 أو 400 دولار يطلب منهم العودة بعد أسبوع لعدم توافر السيولة، بعد فشل إيران التي كانت تأمل في جذب استثمارات أجنبية واسعة غداة الاتفاق النووي، وسيشكل عامل انخفاض العملة أساسا عامل طرد آخر للمستثمرين المحتملين لأنه سيتم خصمه من العائدات الذين يواجهون أصلا عقوبات أمريكية غير المتصلة بالملف النووي بسبب الهجوم الإلكتروني الذي قام به الحرس الثوري الإيراني في عام 2013 تمخض عنه سرقة 31 تيرابايت من البيانات الأكاديمية وحقوق الملكية الفكرية من 144 جامعة أمريكية و176 جامعة في 21 دولة أخرى، فيما وصفته بأنه إحدى أكبر الهجمات الالكترونية التي ترعاها دولة، هذا إضافة إلى العقوبات التي فرضها ترمب منذ وصوله للبيت البيض عام 2017 على إيران حول برنامج إيران البالستي.

الاحتجاجات واسعة النطاق التي خرجت في ديسمبر ويناير 2018 كان الغضب من ارتفاع الأسعار والفساد، بينما في المناطق الريفية كانت صعوبة الوصول إلى الماء سببا رئيسيا آخر للاحتجاجات الأخيرة في أوائل مارس 2018 صغيرة ومتفرقة ومقتصرة على بلدات محيطة بمدينة أصفهان في وسط إيران وإقليم خوزستان في الغرب وردد خلاله عشرات المزارعين هتافا تهكميا يقول ( الموت للمزارعين يعيش الطغاة ) لكن الشرطة أطلقت الغاز المسيل للدموع.

أعود لفوكوياما الذي يذكر أن المرحلة العمرية التي ولدت غداة الثورة الخمينية يبلغون من العمر العقد الرابع، هذا الجيل الذي عاصر الانفجار المعلوماتي والإعلامي ضمن سياقات السموات المفتوحة، وعليه فإن التعاطي معه بالعقلية المحافظة والمتشددة نفسها التي مارسها آيات الله قبل أربعين سنة أمر تتجاوزه طبائع الواقع أو فرضيات المستقبل، يسميها فوكوياما قابلية الانفجار الإيراني، والذي يتصل بالمرأة أيضا التي عانت من الوجه القمعي للملالي وبخاصة أن 60 في المائة من خريجي الجامعات في إيران من الفتيات وهن اللاتي شاركن في احتجاجات ديسمبر 2017 يراها فوكوياما احتجاجات أيديولوجية بأكثر من كونها ثورة على واقع اقتصادي إيراني داخلي مرير.

وهو وضع شبيه بالحال في السعودية، لكن الدولة اتخذت قرارا استباقيا فاجأ به المتشددين، لكنه كان قرارا مدعوما من قبل كبار رجال الدين والمجتمع من أجل العودة إلى المدنية وليس إلى العلمانية كما يدعي البعض، والعودة إلى صحيح الدين ووسطيته بعيدا عن الدولة الدينية، بل إلى مجتمع متحرر من ربقة السيطرة الدينية المتشددة أو المسيسة أو إسلام المتشددين المتهافت.

يبدو أن ترمب ومستشاره الجديد بولتين ووزير الخارجية الجديد أو مديرة وكالة الاستخبارات الجديدة أو وزير الدفاع جميعهم لا يمكن أن تنجح ألمانيا ولا فرنسا في تلين مواقف صقور قررت مواجهة إيران وحلفائها عن طريق تقزيمهم جميعا وليست حربا مباشرة كما يعتقد البعض بل هناك مواجهات أخرى لإضعاف الخصم.

أعتقد أن أمريكا تستخدم النووي الإيراني الذي تعتبره شبح زائف لاتفاق واهم مثلما اتخذت قرار غزو العراق بناء على وجود أسلحة الدمار الشامل مع اختلاف المقارنة حيث أن نفوذ إيران عبر وكلائها في المنطقة ليس وهما بل هو حقيقة.

مرت 15 سنة منذ أن بدأت واحدة من أكثر الأحداث المشؤومة في أوائل القرن الحادي والعشرين حرب العراق بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، وبحسب شهادة خافيير سولانا الممثل الأعلى للاتحاد الأوربي للسياسة الخارجية والأمنية الأسبق أن الحرب أوجدت انشقاقا داخليا في الشرق الأوسط، تمثل بداية نهاية الهيمنة الأمريكية في فترة ما بعد الحرب الباردة، وحرب العراق وضع قبل أحداث 11 سبتمبر ومنذ 1988 دعا مشروع المحافظين الجدد من أجل قرن أمريكي جديد الرئيس بيل كلينتون إلى الإطاحة بالرئيس صدام حسين وبعد فوزره عام 2000 أعلن بوش أن العراق تعد من أهم أولوياته الأمنية.

كان من الممكن تجنب كثير من المعاناة في الشرق الأوسط لو تصرفت الولايات المتحدة بمزيد من الحذر والدقة كما نصح هانز بليكس رئيس لجنة الأمم المتحدة للمراقبة والتحقق والتفتيش، واليوم كثير ممن أيد غزو العراق أنه لم يكن قرارا صائبا وأن الفوضى التي عمت العراق وبقية المنطقة ترجع إلى الأخطاء التي قام بها القادة السياسيون الأمريكيون بعد الإطاحة بصدام حسين، منها ما سمي باجتثاث البعث، التي قامت بها إدارة بوش للقضاء على كل بقايا البعث، الذي جعل كثير من السنيين التحول إلى طائفيين متشددين، خصوصا بعد تفكيك الجيش العراقي ما دفع الكثير منهم نحو التمرد، وفي الوقت نفسه أوجدت الطائفية الفوضى في العراق التي يقودها الشيعة، ورغم حصول الحركة الوطنية بقيادة علاوي على مقاعد أعلى في 2010 إلا أن أوباما فضل حصول دولة القانون على الاحتفاظ بالسلطة من أجل إبرام الاتفاق النووي مع إيران كانت فرصة للتغلغل الإيراني في العراق كمنطلق إلى المنطقة.

لذلك ينصح سولانا ترمب وإدارته الجديدة ولا سيما وزير الخارجية الجديد مايك بومبيو هذه الدروس بعين الاعتبار خاصة مع اشتداد التوتر مع إيران بعين الاعتبار، خصوصا مع تنامي نفوذ إيران الإقليمي يدين بكثير الأخطاء الأمريكية في العراق بدءا بالتخلي عن الدبلوماسية وسيؤدي نهج أميركي مشابه نحو إيران إلى جيل آخر أو أكثر من الاضطرابات في الشرق الأوسط.

ترمب يرى أن كوريا الشمالية بداية قطع الطريق على إرهاب بشار الأسد وطهران، لذلك ستكون مفاوضات ترمب في الأشهر المقبلة مع كيم جونج زعيم كوريا الشمالية أن يتمثل أحد أهم أهداف إدارة ترامب لهذا الحوار التاريخي في وقف مبيعات الأسلحة من بيونج يانج إلى الشرق الأوسط بشكل دائم وهذه الخطوة لم تكن في يوم من الأيام من ضمن أبرز أولويات واشنطن، حيث أن بيونج يانج تواصل تصدير التكنولوجيا العسكرية الخطيرة إلى دول مثل إيران وسوريا رغم مواجهاتها عقوبات مشددة.

يدور ضجيج حاليا في طهران حول توقع المؤسسة الرسمية برفض الرئيس ترمب التوقيع على تجديد التصديق على التزام إيران ببنود الاتفاق النووي، وربما يصدر أوامر بتشديد العقوبات الاقتصادية الراهنة ذات الصلة بالاتفاق المذكور، ومع ذلك يبدو أن طهران عاقدة العزم على الالتزام ببنود الاتفاق النووي لدق اسفين سياسي بين الجانب الأوربي والأمريكي، وهي ترى أن أحذق الطرق هي إبقاء الجميع منشغلين بالقضية النووية.

وهج العلاقات بين الرياض وواشنطن دفع إيران للتصعيد وأصبحت تناور الجميع من نافذة اليمن محاولة مشاغلة الخصوم فإرسال سبعة صواريخ بالستية في آن واحد رغم أنها شظايا في الأجواء قبل تحقيق هدفها حالها حال ال98 صاروخا التي تم إرسالها من اليمن من خلال الحوثيين على السعودية تبرز السعي الإيراني للتصعيد تزامنا مع إرسال مبعوث أممي جديد لليمن مارتن غريفيث وتوقعات انفراجات في العملية السياسية هناك هلع من خسارة إيران مكاسبها خصوصا وأن هناك توجه أمريكي لتقليم أظافر إيران في المنطقة.

المشكلة أن إيران عادت المضخات الإيرانية إلى تفعيل مليشياتها في اليمن الهدف الاستراتيجي عبر عملائها لتحقيق الغايات العظمى لكنها وفق أوهام تتوالد لدى النظام الإيراني الذي يعاني من عدة أزمات خانقة داخلية وخارجية عبر معادلة جديدة تتشكل في المنطقة لمواجهة المشروع الإيراني تتلخص في تعديل أو إلغاء الاتفاق النووي خصوصا بعد عودة الدفء إلى العلاقات السعودية الأمريكية باعتبار السعودية أكثر الدول تعرف مساعي النظام في إيران وهي التي تعي أن مصافحة اليد معهم لن تحقق لهم سوى لعب على ظلام السلام، والسعودية من أكثر الدول حذرت أوباما ولكنه لم يكترث لتحذير السعودية لكن ترمب استوعب مثل هذا التحذير، خصوصا وأن رغبة إيران إطالة أمد الأزمة داخل اليمن لأن هناك فوائد كبيرة يجنيها النظام الإيراني الذي يتعرض حاليا لاهتزازات اقتصادية وسياسية وعقوبات تطال مؤسساته في الدول الغربية.

إيران في حالة من القلق بعد التغييرات التي طرأت على الإدارة الأمريكية يتضح هذا من خلال تصريح مساعد وزير الخارجية للشؤون السياسية عباس عراقجي الذي قال في 26/3/2018 بأن أي خلل بالاتفاق النووي سيدفع المجتمع ثمنه، بل ربطه بأمن المنطقة والعالم وستكون عواقبه وخيمة ما يعني أنه تهديد للعالم وللمنطقة، وأضاف أن محاولات أميركا وحلفائها لاحتواء دور إيران الإقليمي آمال خائبة، لأن إيران ترى دورها الإقليمي أعطاها أوباما مقابل توقيعها على الاتفاق النووي فكيف اليوم ترمب يريد نقض الاتفاق النووي ويريد معه وقف دورها الإقليمي، خصوصا بعد تمديد الرئيس ترمب العقوبات النووية في يناير 2018 للمرة الأخيرة بعدما رفض المصادقة عليها، حينذاك أقرت الخزانة الأميركية عقوبات صارمة على الحرس الثوري المسؤول عن تطوير برنامج الصواريخ البالستية.

لذلك بدأ خامنئي يطالب بتفعيل سياسة المقاومة، رغم أن الخارجية الإيرانية على لسان بهرام قاسمي قلل من تأثير التغييرات في الإدارة الأمريكية على الاتفاق النووي، وهو ما يعني أن الإيرانيين منقسمين ومرتبكين تجاه مواجهة الإدارة الأمريكية الجديدة المصممة على مواجهة إيران، بل هناك فريق ثالث داخل إيران يحذر من شبح الضربة العسكرية للمنشآت الإيرانية، خصوصا بعد الحزم الثلاثة التي قررتها فرنسا وألمانيا وبريطانيا كعقوبات على إيران بسبب دور إيران الإقليمي المزعزع للاستقرار والصواريخ البالستية وانتهاك حقوق الإنسان.

تعيين بولتون يزيد من الارتباك لدى الزعيم الكوري بشأن نوايا ترمب تجاه كوريا الشمالية، لكن هذا الارتباك يعطي ترمب اليد العليا في هذه العلاقة، لكن تصبح الأمور أقل غموضا بالنسبة لترمب عندما يتعلق الأمر بإيران، لقد كان ترمب ثابتا في موقفه ضد الاتفاق النووي لعام 2015 وبولتون هو صوت آخر في التشكيلة الجديدة للإدارة يدعم موقف ترمب، وتعيين بومبيو وزيرا للخارجية ناقدا لإيران مؤشر على تناغم متزايد فيما يتعلق بإيران داخل الإدارة الأمريكية الحالية.

تصرفات إيران تثير غضب إسرائيل وحلفاء أمريكا على رأسهم السعودية، وإدارة ترمب تسعى ليس فقط لإلغاء الاتفاق النووي بل تود أن تحد من نفوذ إيران في المواقع الاستراتيجية في الشرق الأوسط، الإدارة الجديدة ساهمت في زيادة عدم اليقين داخل إيران، وبالتالي إلى دفعها للموافقة على نوع من التسوية في اليمن على سبيل المثال أو في سوريا وكذلك التوقف عن دعم المليشيات في العراق، فليس شرطا أن تؤدي الكلمات القوية إلى اتخاذ إجراءات عسكرية قوية في كثير من الأحيان خصوصا إذا أدت العقوبات دورها، مجرد وضع احتمال جدي للإجراءات القاسية توازيا مع العمل على خلق درجة من الارتباك لدى إيران قد يحقق النتائج المرجوة.

فالسعودية لو لم تشن الحملة العسكرية لكان اليمن كله وبموانئه تحت النفوذ الإيراني وكان سيدفع إلى حرب شاملة، لكن بعد الحملة العسكرية التي لم تترك للنفوذ الإيراني عبر الحوثيين يسيطرون فقط على أقل من ربع اليمن، وهي إجابة لمن يستنكر الحل العسكري، ولا يزال إطلاق الصواريخ استعراض دعائي لكنه لا يبرهن على قدرة متفوقة بل تدل على عجز عن استخدام قدرات أكبر ومؤثرة على المواقع الحيوية، مما يبرهن على أهمية سرعة تحرير الربع المتبقي من اليمن وفي اعتقادي زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لواشنطن سيعجل في تحرير الربع المتبقي خصوصا وأنه في شمال اليمن يهدد أمن السعودية ومكتظ بالسكان يستخدمهم الحوثيين دروع بشرية من أجل إحراج التحالف بقيادة السعودية.

تستثمر السعودية الوضع الإيراني ووضع الحوثيين الذين يصارعون من أجل تهريب صواريخهم من أجل إطالة أمد الأزمة وإثبات أن قدرتهم على مواصلة الصمود لا زالت باقية وهم أمام المبعوث الدولي الجديد مارتن غريفث تدين إيران والحوثيين أنفسهم بأنهم أطراف غير موثوق فيها وغير راغبين في أي حل سياسي سلمي الذي يدعوهم للمشاركة تحت إطار الحكومة الشرعية بعد اعترافهم بالمرجعيات الثلاث التي وافقوا عليها قبل الانقلاب على الحكومة الشرعية وتسليم الأسلحة للحكومة الشرعية.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق