فصل جديد من الصراع الروسي-الأمريكي في سورية

كانا الاتحاد السوفيتي وألمانيا النازية القوتين الأساسيتين المتحاربتين على الجبهة الشرقية علاوة على حلفاء كل منهما.

كانت الجبهة الشرقية أكبر الاشتباكات العسكرية على مر التاريخ، والتي اتسمت بالاستخدام المفرط، والغير مسبوق للقوة، وما تبعه من دمار شامل، وتهجير، وخسائر فادحة، قدرت المذابح ب 70 مليون، حصدت أرواحهم خلال الحرب العالمية الثانية، منهم 30 مليون على الجبهة الشرقية، أغلبهم من المدنيين.

كان الاتحاد السوفيتي العامل الحاسم لهزيمة ألمانيا، وتقسيمها لنصف قرن، وقيام الاتحاد السوفيتي كقوة عظمى على الصعيد الصناعي والعسكري حتى عجز الاتحاد السوفيتي عن الاستمرار لأكثر من نصف قرن قبل انهياره مطلع العقد الأخير من القرن العشرين.

بالعودة إلى بعد الحرب العالمية الأولى تنازل الاتحاد السوفيتي لألمانيا عن السيادة الروسية، عن دول البلطيق، وانتقال السيطرة على لتوانيا واستونيا ولاتفيا، وكذلك التخلي عن السيطرة على كل من بولندا وفنلندا، والاعتراف بأوكرانيا كدولة مستقلة ، مع دفع تعويضات للحكومة الألمانية، ومع استسلام ألمانيا للحلف حصلت الدول السابقة على استقلالها بمقتضى فاعليات مؤتمر السلام بباريس للحكومة البلشفية الذي لم تظهر ككيان إلا بعد أربعة أشهر تالية.

بعد أن كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي حلفاء ضد قوات المحور، إلا أن القوتين، اختلفتا في كيفية إدارة ما بعد الحرب الثانية، وإعادة بناء العالم، فبدأت سياسة المخاطر، والاستئصال للشيوعية حول العالم، خاصة في أوربا الشرقية، وأمريكا اللاتينية ودول جنوب شرق آسيا.

بوصول ريغان نتيجة ضغوط الولايات المتحدة السياسية والعسكرية والاقتصادية على الاتحاد السوفيتي، اضطر غورباتشوف إلى إصدار مبادرتين: بيرستوريكا – اصلاحات اقتصادية، وغلاستسوب – مبادرة إتباع سياسة أكثر شفافية وصراحة، والاعتراف بانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، تاركة الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في عالم آحادي القطب.

انتقلت آليات الصراع، من صراع أيديولوجي مباشر بين أمريكا والاتحاد السوفيتي إلى صراع مصالح ومجالات حيوية للهيمنة، انتهى إلى صراع مسلح شبه مباشر بين روسيا وأوكرانيا، التي يقف وراءها الغرب كله باقتصاده وقوته العسكرية والإعلامية والمالية.

فبعد أزمة أوسيتا وأبخازيا التي اندلعت عام 2008، والتي انتهت بفرض المارد الروسي إرادته ومنع انفصال الإقليم عنه، تعود أزمة القرم عام 2014 لتشعل فتيل المراكمات الطويلة بين الروس وأوربا حول استقلال الأقليات عن روسيا تحت وقع الإغراءات الأوربية من جهة في ضم هذه الدول الجديدة إلى الاتحاد الأوربي.

عادت مرة أخرى ألمانيا هذه المرة، وهي ضمن الاتحاد الأوربي، وليست بمفردها، كما كانت أثناء الحربين العالميتين، وعلى لسان المستشارة ميركل التي تعارض ضم روسيا لشبه جزيرة القرم التي كانت تحت أوكرانيا، لكن بوتين يؤكد أن روسيا لن تتخلى عن شبه جزيرة القرم، خصوصا بعد الاستفتاء الذي أجري في القرم، وهو ما يمثل أن تلك التصريحات من ميركل  تخفي وراءها استراتيجيات عميقة بين الطرفين الروسي والألماني الغربي، في استذكار واضح لطبيعة الصراع الشرقي الغربي أيام الحرب الباردة، وقبل الحربين العالميتين بين روسيا وألمانيا.

وذكرت ميركل بوتين، بأن أزمة أوكرانيا ليست شأنا إقليميا كما يعتقد، بل إنها تشكل مخاطر خاصة فيما يتعلق أيضا بجورجيا ومولدوفيا وصربيا، وذكرت ميركل في معهد لوي للسياسات الدولية في استراليا، بقولها إن روسيا لا تزال تعتبر أوكرانيا منطقة نفوذ لها، وتضرب القانون الدولي بعرض الحائط، وهو يهدد السلم الأوربي بعد حربين عالميتين ونهاية الحرب الباردة، وهي لا تريد إحياء عصر ألمانيا الشرقية، وقالت إن الأمر لا يدور فقط حول أوكرانيا، وإنما يدور أيضا حول مولدافيا وجورجيا، وإذا استمر الوضع على ذلك الحال، فإنه يتطرق أيضا إلى صربيا، ودول البلقان الغربية.

وخيّر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ روسيا في بروكسل أثناء اجتماع وزراء الدفاع الأوربيين، قائلا إما أن تختار روسيا أن تشارك في حل سلمي عبر التفاوض، أو تواصل السير على الطريق تقود إلى عزلتها.

لكن بوتين أكد بأن روسيا لم تنتهك القانون الدولي، وأن المواطنين عبروا عن رأيهم في مستقبلهم بحرية خلال الاستفتاء، على عكس ما حدث في كوسوفو، حيث تم إعلان استقلالها عام 2008 بقرار برلماني فقط.

ونفى بوتين اتهامات الغرب لروسيا بعدم بذل جهودا كافية لحل النزاع الدموي في شرق أوكرانيا، وقال بوتين أن اتفاق مينسك أبرم لوقف إطلاق النار، بينما الاتحاد الأوربي خاصة ألمانيا والولايات المتحدة فرضا عقوبات اقتصادية ضد روسيا لدفعها إلى بذل المزيد من المساعي لحل الأزمة الأوكرانية.

روسيا تواجه شبح العزلة، والغرب يصعد من العقوبات، وقال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون إن أوربا والولايات المتحدة أرسلتا إلى الرئيس فلاديمير بوتين بأن المجتمع الدولي سيعزل روسيا إذا لم تحل الأزمة في أوكرانيا، وأن هناك هدف وحدة حقيقية بين أميركا والاتحاد الأوربي للتأكيد من عدم وجود شكل من أشكال الصراع الدائم في قارة أوربا.

لكن روسيا تؤكد في كل مناسبة أن الأزمة الأوكرانية هي نتائج لمراكمات طويلة لا دخل لروسيا فيها، وأن روسيا جزء من الأزمة بل هي طرف في الحل، وتنفي موسكو أي تورط في الأزمة الأوكرانية، رغم ذلك يؤكد أوباما أنه من الوارد فرض المزيد من العقوبات.

ما تقوم به روسيا في سوريا لإقامة موطئ قدم، هو تحرش، رغم أن الولايات المتحدة تحاول مراعاة المصالح الروسية مقابل حل الأزمة الأوكرانية، لكن زيارة الملك سلمان للولايات المتحدة، هناك خشية من روسيا أن تتغير مواقف الولايات المتحدة، وتجعل روسيا تخسر في أوكرانيا وفي سوريا.

لكن ما يدور في سوريا قد يقود إلى مواجهة بين دول التحالف التي تقود حرب ضد داعش وروسيا ليست طرفا فيها، خصوصا وأن الولايات المتحدة وعواصم أوربية فوجئت بتكثيف روسيا تواجدها في سوريا، بينما كان هناك بحث عن حل سياسي، وفجأة يتغير هذا المناخ بشكل كلي، وتعود روسيا إلى مواقف معاكسة.

روسيا لديها مطالب ولم ترى استعداد أمريكا تلبية شيئا من مطالبها، وهو فيما يخص الدرع الصاروخي في أوربا، والرادارات التي ركزها حلف الأطلسي عليها، هذين المطلبين الأساسيين على اللائحة التي لم تستجيب لها الولايات المتحدة، بينما يكتفي الغرب بالمقايضة في أوكرانيا التي استجدت من قبل الغرب، دون أن تحصل روسيا على مقابل تلك الخسائر الجوستراتيجية في حديقتها المجاورة التي تتآكل منذ انهيار الاتحاد السوفيتي ويتوسع الاتحاد الأوربي على حساب روسيا الاتحادية ومصالحها الحيوية.

روسيا لمست في الفترة الأخيرة بأن النظام السوري بات في وضعية هشة، وقد يدخل في انهيار وشيك أو مفاجئ، ووضعية غير قابلة للسيطرة، ويمكن أن يستشري التطرف.

فإنشاء قاعدة جديدة في اللاذقية حتى يبقى النظام صامدا، لأن بسقوطه تخسر روسيا مصالحها، وكذلك إيران في سوريا، خصوصا بسبب أن التحالف الذي أنشئ لقتال داعش استبعد روسيا، لكن بعد انتشاره إلى العراق، تسللت إيران في الاشتراك في محاربة داعش عبر الحشد الشعبي، بينما نجح النظام السوري وإيران عبر وكلائها في المنطقة، بأنهم فتحوا الطريق أمام هيمنة داعش، لإرباك المشهد، وإضعاف المعارضة، وتهميش سنة العراق، وإضعاف دورهم، وهو ما يجعل الحشد الشعبي يرفض المصالحة، ويرفض الموافقة على تشكيل الحرس الوطني، بينما وافق فقط على تسليح جزئي لعشائر الأنبار من أجل إرضاء الولايات المتحدة، ولكنه لن يؤثر في تصحيح مسار العراق بين جميع المكونات العراقية بدلا من استئثار مكون دون بقية المكونات بدعم إيران.

هذه مبررات لن تقبل السعودية أن يشارك النظام السوري في قتال داعش مثلما تطالب روسيا، خصوصا بعدما طرأت تغيرات على التحالف، بعد دخول بريطانيا، وحتى الآن لم تدخل روسيا التي يمكن أن تتغير المعادلة، خصوصا بعدما نجحت الولايات المتحدة في كشف حقيقة موسكو وأنها تريد القضاء على المعارضة، وليس القضاء على داعش ما يمثل إحراجا لموسكو أمام المجتمع الدولي، وبشكل خاص أمام السعودية، التي حاولت أن توقع اتفاقيات اقتصادية بعدما حصلت من روسيا على القرار الأممي 2216 حول اليمن.

وتريد الولايات المتحدة مواصلة الضغط الاقتصادي، بجانب العقوبات والعزلة التي تفرضها على موسكو، وهي تريد مواصلة الضغط على موسكو، خصوصا بعدما فقدت العملة الروسية أكثر من خمسين في المائة من قيمتها أمام الدولار منذ عام 2012، بجانب انخفاض أسعار النفط، بينما هي ترفع العقوبات عن إيران التي هي الأخرى خسرت أكثر من 50 في المائة من عملتها، من أجل فك التحالف بين إيران وروسيا، ومواصلة العزلة على روسيا، التي يحاول بوتين التحرر منها عبر اتفاقيات مع الصين ودول الشرق الأوسط.

وأعلن وزير خارجية بريطانيا عن أن بلاده تقبل ببقاء الأسد في السلطة لفترة انتقالية إذا ساعد هذا الأمر على حل الأزمة، وترى أن حل الأزمة لن يحل إذا لم تضغط إيران وموسكو على النظام السوري للمساعدة في التوصل إلى حل سياسي، فيما حذرت فرنسا من أن إرسال موسكو قوات عسكرية للأراضي السورية، سيزيد من تعقيد الأزمة.

يبدو أن التحرك الفرنسي والبريطاني لقطع الطريق على روسيا في التسرع لحماية النظام السوري، بل كانت المناورة الأمريكية التي اعتبرت أن روسيا عززت دعمها العسكري للأسد منذ أيام الحرب الباردة، أي أنها تريد أن ترسل رسالة لروسيا أنها لا تريد مواجهة يمكن أن تتحمل مسؤولية ما يحدث، خصوصا بعدما طلبت الولايات المتحدة من اليونان وبلغاريا بإغلاق مجالهما الجوي أمام الرحلات الجوية الروسية المتجهة إلى سوريا، ووصفته روسيا بالفظاظة الدولية، وهي رسالة موجهة من الولايات المتحدة لروسيا، بأن الولايات المتحدة لا تزال الدولة العظمى في العالم، ويجب أن ترضخ روسيا لأوامرها، ولم تعد كما كانت زمن الحرب الباردة، بل هي دولة تزداد انكماشا وضعفا اقتصادها، لا يمثل سوى نصف الاقتصاد الألماني، فلا داعي لتوتير المواقف والتحرش الذي يضر بروسيا ولن ينفعها.

خصوصا بعدما أرسلت روسيا سفينتي إنزال بري وطائرات إضافية إلى سوريا في أحدث المؤشرات على حشد عسكري جعل واشنطن تقف في حالة تأهب، خصوصا بعد تزايد المهاجرين إلى أوروبا.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق