سورية: في المجازر والطائفية والتقسيم

يحتضن التاريخ السوري، وثائق عن سعي عائلة الأسد منذ أيام الاحتلال الفرنسي، لتشكيل كيان طائفي علوي مستقل على امتداد الساحل السوري، دون أن يتبلور هذا الطرح بشكل واقعي نتيجة رفضه من الطائفة ذاتها عبر مقاومة صالح العلي من جهة لمحاولات فرنسا إعادة تفكيك سورية ثانية حينها، ولتوحد الجهود السورية كافة في الحفاظ على شكل الدولة المقتطع منها أجزاء تم دولنتها.

إلا أن المخيال الأسدي بقي محتفظا بفكرة الدولة العلوية، وإعادة طرحها بشكل محدود مع مطلع الثمانينيات من قبل رفعت الأسد، دون أن تلقى المحاولة الثانية تلك مكانا لها على الخارطة السورية، أو صدى مجتمعي لها يسعى لتنفيذها.

وتعتبر المؤسسة الطائفية أحد أهم ركائز حكم آل الأسد لسورية طيلة العقود الماضية، وخاصة بعد ربط مصير الطائفة العلوية بمصير هذه العائلة، عبر تصويرها كمخلص لها من استبداد يعود إلى أيام الإقطاع العثماني، الذي تم تصويره بأبعاد طائفية تتعلق بالآخر السني، ومعتمداً آلية التعتيم التاريخية على حقائق حقبة الإقطاع العثماني، ودور كافة الإقطاعيين في استعباد القرى الفقيرة، بغض النظر عن انتمائها الديني، علماً، أن عدداً من أولئك الإقطاعيين، كانوا من الطائفة العلوية ذاتها.

تحريف الوقائع التاريخية، وتقديم تفسيرات طائفية، و”تخليص” الطائفة العلوية –كغيرها من الطوائف- من آثار الإقطاع عبر الثورة الاشتراكية والتأميم، وتوفير الأراضي الزراعية للأقنان، مترافقة مع طموح انفصالي أسدي، ساهمت جميعها، في خلق حاضن اجتماعي متلازم لسلطة الأسد، عبر طائفته.

وحرصت هذه العائلة، على ضمان استمرارية هذا الحاضن، بربطه مباشرة بسلوك السلطة، وفق المعطيات السابقة، وجعله جزءاً منها، لتكون بذلك أحداث الثمانينيات خطوة إضافية في خلق الشروخ الطائفية والحواجز الفكرية بين شرائح المجتمع السوري.

فمنذ أن ارتكب الأسد الأب مجازره في ثمانينيات القرن الماضي، تشكل وعي طائفي علوي، هو وريث (عقدة المظلومية التاريخية)، بأن الطائفة باتت مستهدفة كحالة انتقامية أو قصاصية منهم، لاشتراكهم المباشر سواء في ارتكاب تلك المجازر أو الترويج لها أو دعمها، مما دفهم إلى مزيد من الالتفاف حول نظام الأسد، لكونه القوة الوحيدة القادرة على توفير الحماية لهم من محاولات اقتصاص عادل أو انفعالي تجاههم.

هذه كانت ذاتها إحدى الوظائف التي نشدها الأسد الأب من تلك المجازر، عبر ربط مصير حاضنه الاجتماعي الطائفي بمصيره الشخصي ومصير نظامه، مقابل تمتين تغلغلهم في كافة الأجهزة الأمنية والعسكرية، بحثاً عن أية محاولات مضادة قد تنشئ لاحقاً.

ذات المنهج يسلكه الأسد الابن منذ اندلاع الثورة السورية، بوتيرة إجرامية باتت أعتى من سابقتها، وعبر مزيد من التورط العلوي في المجازر في كافة أنحاء سورية، ومزيد من القلق الطائفي من المحاسبة اللاحقة.

هذه المعادلة غير العقلانية، تدفع بالتيار الطائفي، إلى مزيد من سفك الدم بالطريقة البربرية (ذبحاً)، بحثاً عن إمكانية إجهاض الثورة، واتقاء محاكمات وحالات قصاص تتحضر منذ المجازر الأولى. لتخلق حالة عليا من الاحتقان العام لدى شرائح الشعب السوري المعرض للذبح بشكل يومي، لن تهدأ نفوس أصحابها قبل إعدام كل مشارك في تلك المجازر.

من ناحيته، يستغل الابن هذه الحالة، لدفع بيئته الطائفية، إلى مزيد من القلق والتوتر، وخاصة عبر ترويج فكرة “الإسلام المتطرف”، واستدعاء تاريخ شعبوي مصطنع، لتدفعهم في المقابل، للانزواء في كيان خاص يدافعون عنه دفاعاً وجودياً يحمي كل تياراته سواء المتورطة مع النظام أو المنعزلة عنه.

ولهذا الغرض، تم تشكيل قوات خاصة من المدنيين المناط بهم “العمليات القذرة” للجيش، وهي قوات الشبيحة ذات اللون الطائفي الواحد، والتي أسميت لاحقاً، قوات الدفاع الوطني، حيث ارتكزت على حماية الجيش النظامي لها، وتمهيد الطريق أمام دخولها المناطق المستهدفة، سواء بالقصف الجوي أو المدفعي، بتمويل من الخزانة العامة السورية، أو بإطلاق يدها في نهب ممتلكات المواطنين، وتعتبر هذه القوات “الشبيحة” عماد عمليات الذبح التي تتم في المجازر المرتكبة في كل أنحاء سورية.

أما عن الأبعاد الوظيفية للمجازر تلك، فإنها تتعدى حالة الانتقام والإرهاب لكل من عارض الأسد، وللحاضن الاجتماعي للثورة السورية، إلى تعزيز الفكر الانفصالي لدى كافة الجهات (الجاني والضحية) من جهة، إضافة إلى بعد تطهيري في مناطق التماس الطائفية على نهر العاصي، من الحدود الشمالية السورية مع تركيا، إلى منطقة القصير على حدود لبنان. فوفق التصورات الأسدية، يشكل هذا النهر، خط شرخ طائفي، يتم العمل على تهجير سكانه من الطوائف غير العلوية، تمهيداً لإعلانه حدوداً شرقية لدولتهم.

إلا أنه في حال استطاع الأسد إنشاء هكذا دولة، ممتدة بين المتوسط ونهر العاصي، فإن مجازر أكبر ستشهدها هذه المنطقة لمئات الآلاف من أبناء الطوائف غير العلوية فيها إن لم يغادروا أراضيهم ومنازلهم. تماماً كما حصل مع الفلسطينيين إبان تأسيس الكيان الإسرائيلي.

أما في البعد الدولي لهكذا مشروع، فلابد من الانتباه إلى المطامع الروسية، منذ عدة قرون، إلى امتلاك منصة بحرية في المتوسط، ولم يكن لها أن تمتلكها إلا عبر تبني نظام الأسدين، ويبدو بالتالي، أن مشروع الدفاع عن هذا الكيان، هو مشروع روسي خالص، يحقق طموحا إمبراطورياً، وخاصة بعد إعادة هيكلة القوة الروسية على الصعيد الدولي، ونهوض يتسارع لاستعادة المكانة الروسية، وإن كان الوقت ما زال مبكرا للحديث عن قطبية روسية، لكن مما لا شك فيه، أن القوة الروسية استعادت كثيراً من قوتها، وبالتالي من مطامعها، خلال السنوات الماضية، وعليه أعادت رسم مصالحها وأولوياتها. وما تخليها عن التمركز في المتوسط إلا خسارة استراتيجية غير مبررة. ولابد من التذكير أن مشروع تقسيم سورية والمنطقة إلى كيانات طائفية، هو مشروع إسرائيلي في الأساس، سعت إليه لتعزيز وجودها في المنطقة على أسس دينية.

ومن مؤشرات العمل على تأسيس المقدمات الانفصالية للأسدين، نقل ثروات الداخل السوري إلى محافظتي اللاذقية وطرطوس، اللتان تتمتعان باستقرار يعم غالب مساحتهما، فيما كانت قوت الأسد تدك المدن والقرى لتزيلها من على الخارطة السورية، وإشغال القوات المعارضة في معارك تزيد من تدمير البنى التحتية، وتخلق حالة اضطرابات سياسية وعسكرية. ومن ذلك ما صدر حديثاً عن حاجة سورية إلى 60 مليار دولار لإعادة إعمار ما خلفته الحرب، وفترة قد تصل إلى ربع قرن مقبل.

وربما كانت المعركة الطائفية الدائرة حالياً في منطقة القصير، بمشاركة قوات حزب الله إلى جانب النظام، مرتكزاً رئيساً يحدد مصير منطقة حمص أولاً، ومصير الكيان الانفصالي لاحقاً، ما يضع أعباء كبرى على عاتق المعارضة السياسية والعسكرية في إعادة هيكلية عملياتها، وإنقاذ هذه المنطقة. فخسارتها تعتبر خسارة استراتيجية سيطول تعويضها، كما أنها ستقدم للأسد دعماً كبيراً في التوسع واستعادة شيء من قوته.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن الشبكة العربية العالمية

الوسم : الأسدسورية

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق