الطور السياسي والاجتماعي للثورة السورية: عقبات وحلول الشمال نموذجاً

تمر بنا الذكرى السابعة لانطلاق الثورة السورية، متزامنة مع تهجير سكان وأهالي الغوطة الشرقية، والحَجَر الأسود، ومخيم اليرموك، وريف حمص الشمالي، الثائرين بوجه النظام المجرم، أراد النظام المجرم، توجيه رسائل مباشرة عندما زار الغوطة في ١٥ آذار، ليلعن انتصاره العسكري في ذكرى الثورة، للأشخاص الذين يعتبرون بداية الثورة (مظاهرة الحريقة وسوق الحميدية في دمشق) في هذا التاريخ. كما توقف القصف واُعلن عن تهجير سكان الغوطة في ١٨ اذار، ليعلن أيضا إنهائه لملف الغوطة في ذكرى الثورة لمن يعتبر هذا التأريخ بداية الثورة وهو توقيت (مظاهرات درعا). بذلك يعترف النظام المجرم ضمنياً بوجود ثورة ضده، عمل على إنهائها عسكريا، ومعنويا، وبقي المجال السياسي، والاجتماعي، ساحة مستمرة للصراع.

لا يعني أبدا إنهاء ملف الغوطة نهاية الثورة، فما قام به النظام المجرم ومن خلفه النظام الدولي المتخاذل هو عملية نزع الصاعق المتفجر لقنبلة موقوتة ما تزال تحتوي على أسباب انفجارها الداخلية. وقام الثوار بدورهم بمساعدته في ذلك عندما تعاطوا مع ملف الغوطة في الثورة من باب إظهار الغوطة بوابة وشرارة الثورة وبوصلتها الوحيدة، في حين تجاهل الثوار مؤقتا معاني الثورة الحقيقية، واقتصروا على بعض المعاني التي استوردوها من التراث والماضي (المفهوم العسكري بشقه الجهادي).

لو استعرضنا بعض المعاني والأسماء العالمية للثورات، لوجدنا مسميات عدة كالثورة الصناعية في أوروبا، والثورة الفرنسية في فرنسا، والثورة الفكرية والاجتماعية في كتابات جون لوك وروسو وهوبز. في حين اقتصر في الثورة السورية على اسم ظاهري، تحت مسمى الثورة السورية. ليحتوي داخله على معنى تراثي (العسكرة)، لكن عند النظر بعمق نحو مجريات الثورة يمكن أن نفهم، أن معنى الثورة السورية أعمق ولو لم يُعترف أو يتطرق له أحد، أو يلاحظه بعض المتابعين والدارسين لمسيرة الثورة.

التمايز الاجتماعي والانفجار القادم (الأنا الفوقية والآخر المختلف):

بداية تحمل الثورة السورية في طياتها مستويين اثنين للتغير هما:

  • مستوى الدولة.
  • مستوى المجتمع.

وبالعودة لمجريات الثورة في السنوات السابقة نجد أنها اقتصرت على مستوى الدولة، كخطوة أولى، لتؤجل المستوى الثاني لمرحلة لاحقة نعيشها اليوم، بعد حصول التغيير الديمغرافي في سوريا، والذي يهدف لعدة أمور منها التقسيم على المستوى الدولي، ومتابعة الثورة بمكان آخر بالنسبة للمعارضة.

انهارت الدولة السورية والنظام معاً بعد سبع سنوات من النضال الثوري، ولا يمكن بأي حال من الأحوال فصل الدولة بمفهومها الحديث عن النظام السائد وذلك لأن النظام أسس لدولة أقلوية طائفية تحكم السوريين بالحديد والنار.

كانت المؤسسة الدينية المصطنعة والمؤسسة العسكرية والأمنية هما دعامتا الدولة وكانت العلوية السياسية والطائفية هي المسيطر والمدير الحقيقي لتلك الدعامتان، والمقحمة بكل مفاصل الدولة وشؤون السلطة.

وبانهيار الدعامتان انهارت الدولة السورية، ويظهر ذلك واضحا من خلال النفوذ الدولي المتسلط على مفاصل الدولة، والتقسيم الحاصل في سوريا والذي بات معرّفا كالتالي:

الشمال السوري تحت النفوذ التركي، والجنوب السوري تحت النفوذ الأمريكي، ومن خلفه المتحكم الحقيقي بذلك الجزء (إسرائيل)، أما الشرق السوري فهو منطقة أمريكية خالصة، في حين يبقى وسط سوريا مع الواجهة البحرية تحت النفوذ الروسي.

لا يعني حصول التقسيم، أن الاسد انتصر، أو انهزمت الثورة، فمصير الأسد والعلوية السياسية أصبح في نهاية عمره، وسيعلن انتهاء دوره قريبا عند أول فرصة تسمح بذلك، بعد إزالة بعض العقبات، والاتفاق على رئيس شكلي جديد ومن الأكيد بعيدا عن العلوية السياسية.

مع إعلان التقسيم فعليا، ستدخل الثورة مرحلتها الثانية، والتي تتجلى بثورة على المستوى المجتمعي، والذي تكبله عدة قيود بحاجة لتحريره وفكه منها للانتقال نحو مفهوم الدولة الحديثة وبالتالي المجتمع الحديث.

يحلو للبعض هذه الأيام إطلاق تسمية سوريا المصغرة على محافظة إدلب، وذلك بعد عمليات التهجير والتفريغ الديمغرافي الذي حصل، وأدت إلى تجميع مجتمعات وجماعات وسكان وأفراد من كامل سوريا وعلى اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم في بقعة جغرافية منسية من سوريا أصلا قبل الثورة.

باختلاف وتعدد المجتمعات الُمهجرة والمحلية في إدلب، ستدخل الثورة مرحلتها الثانية والتي تتجلى بعملية ثورة على المفاهيم المجتمعية الضيقة، إضافة الى عملية انصهار ضمن بوتقة واحدة، وخاصة أن هناك أمر مفاهيمي فكري يجمعهم نسبيا هو الثورة السورية، مما سيساهم ويساعد في عملية الانتقال المجتمعي على الرغم من صعوبته.

تظهر أولى المفاهيم التي يجب معالجتها في المجتمع الجديد، مصطلح نازح أو مهجر أو مصطلح تغير ديمغرافي، على اعتبار أننا ما زلنا ضمن الوطن والجغرافية السورية إلى جانب مصطلح ابن ادلب أو ابن عفرين أو الباب، نحو ابن سوريا.

فمصطلح نازح، مصطلح سيء قديم في الثقافة العربية والسورية، فإلى اليوم يطلق على مهجري الجولان تسمية نازح، وهو مصطلح يعني ضمنا حسب ثقافة التداول انتقاص المنعوت به من قدره و ازدراؤه بشكل مهذب، و يتبدل ذلك المصطلح حسب المنطقة فمثلا يطلق على بعض سكان ضفتي الفرات اسم المغمورين، وهي تسمية قديمة أيضا تحمل ازدراء وانتقاصاً للمنعوت بها، وهم بالأصل بعض السكان المحليين في منطقة الفرات والذين غمرت قراهم بفعل نهر الفرات على الرغم من أنهم من نفس سكان المنطقة ومن نفس القبيلة أحيانا إلا أن الازدراء والانتقاص يطالهم.

بالطبع هكذا مصطلحات ستعيق الاندماج بين قاطني الشمال السُوري، وستجعل المجتمع مقسماً بشكل عرضي بين أصيل مقيم ووافد مهجر أو نازح.

وبإمعان النظر أكثر نجد أن المجتمع الأصيل المقيم، منقسم ومختلف أيضا فهناك الولاء للقبيلة والذي يعني وجود انتماء اجتماعي للقبيلة يعرف بأن حامله أصيل معلوم النسب في حين من لا يحمل ذلك الامتداد القبلي أقل شأناً ومكانة وبالتالي غياب المعرف الاجتماعي له.

ويمتد هذا الانقسام نحو الوافدين أيضاً، فيعرف الأصيل المقيم نفسه حامل الانتماء بالأنا مقابل المهجر ابن المدينة (الغوطة وداريا كمثال)، وحتى مقابل المهجر ابن القبيلة أيضا وهو على الغالب ابن الريف الحموي المنتمي للقبيلة ذاتها وحتى ابن المنطقة الشرقية كدير الزور، لكن ترتفع الأنا القبلية لابن ادلب وريفها ضد الأنا القبلية لابن دير الزور وحتى الريف الحموي والحمصي المهجر أو النازح والذي قد يكون من نفس القبيلة.

تظهر أيضا انتماءات أقل وضوحا وتميزا وتنتشر في كل سوريا تقريباً بين ابن المدينة وابن ريفها، حيث يظهر هذا التمايز أيضا على المستوى المحلي الأصيل المقيم، ويزداد هذا التمايز عند الاحتكام لأمور مادية، خاصة أن الريف أصبح بعد الثورة ذا ثقل سكاني ومالي يجعله أقوى من المركز الذي لطالما عرّف عن نفسه بأنه مركز الرقي الاجتماعي والثقل المادي والاقتصادي.

هناك تمايز آخر أكثر تعقيدا وتفتتا، وهو التمايز العقائدي والأيديولوجي، فتظهر في الشمال المحرر الانتماءات الإثنية المختلفة، والتي تُعرف نفسها بأنها الثورة أو غير الثورة، فيعرف المسلم نفسه بأنه الثورة و ذلك اعتمادا على أسلمة الثورة التي ظهرت بفعل الإقبال الإسلامي الكبير عليها، وظهور تنظيمات إسلامية معتدلة أو متشددة، في حين لا يستطيع الفرد ذو الانتماء الدرزي والمقيم في إدلب أصلا ما قبل الثورة بأن بعرف نفسه بناء على ذلك، فيجد في نفسه اختلافاً وتمايزاً عن ابن الثورة، و هو الأصيل المقيم مثله في إدلب، مما اضطرهم لغياب نجمهم عن الساحة الثورية.

وفي موقع آخر يظهر تمايز قومي، يتجلى بين العرب والأكراد، فيقدم العربي نفسه متمايزا عن الكردي بأنه ذو أصالة تنتمي لهذه الأرض وذو توجه ثوري، في حين يغيب هذا عند الكردي بسبب بعض التوجهات السياسية للأحزاب الشيفونية الكرديّة، على الرغم من وجود تيار ثوري كردي اصطف إلى جانب الثورة من بداياتها السلمية.

يظهر تناقض عند الحديث عن المكون التركماني، فبفعل بعض التوجهات السياسية الداعمة للثورة من قبل تركيا، لا يظهر التمايز ضد التركماني من منطلق سياسي ولكن يبقى وجود التمايز القومي ضده عند نعته بوصف تركماني، وهو كافٍ للدلالة على وجود هذا التمايز القومي.

بالطبع هناك الكثير من الأمور التي ستشملها الثورة المجتمعية، والتي يصعب معها التنبؤ والتنذر بالزمن اللازم لانتهاء تلك الثورة، ولكن بالتأكيد تقع مسؤولية ذلك كله على القوى الثورية بداية، ولا يجب أن ننسى دور الفاعل السياسي في تلك المنطقة، والتي تقع ضمن النفوذ التركي، والذي يعاني أساسا من وجود هذا التمايز القومي في موطنه التركي، وخاصة في المسألة الكردية، التي تسبب له هاجساً على المستوى الأمني القومي مما يعني دفعه للأمام ومساندته لقوى الثورة  في ثورتها المجتمعية بغض النظر عن مساندته أو عدم مساندته للثورة في مستواها الأول أو عن مطابقة أهدافه مع أهدافها في ذلك المستوى.

(يفترض بالتركي الانتباه لهذا الأمر والعمل على دعم الثورة المجتمعية عن طريق بناء دولة المواطنة، والتي تتميز بالعدالة بين مكوناتها الإثنية، وذلك عن طريق تشجيع الحوار ودعم مؤسسات المجتمع المدني الحديث، والانتباه لمحاولة التميز على أساس العرق أو القبيلة أو الثورية، وتفعيل الحياة السياسية الحزبيّة).

بمعنى آخر، إن الدور التركي سيكون أكثر فعالية في هذا المستوى، لينتج مجتمع متجانس ينعكس بشكل إيجابي على أمنه القومي، وليقدم نموذج يحتذى ويتمايز به مجتمع النظام وروسيا في الداخل ومجتمع المنطقة الشرقية الواقعة تحت النفوذ الأمريكي، وحتى مجتمع جنوب سوريا.

لكن بالطبع، إن أدوات هذه المرحلة ستكون مختلفة عن أدوات وأشخاص تلك المرحلة، ولو أخطأت القوى الثورية وتركيا تقديرها في اختيار الأشخاص واعتمادها على حزب سياسي واحد ورؤية واحدة للمجتمع، فستكون النتائج كارثية وشبيهة بالحالة التي أفضت لها المرحلة الأولى، عندما ترددت تركيا بالتدخل مبكرا في سوريا، فظهرت الفصائل الأيديولوجية المتشددة القومية والدينية.

 مع اعتمادها على شخصيات وقوى محددة، أفضت لوضع غير مرضٍ للسوريين، وذلك من خلال اعتمادها وانحيازها نحو مكونات سياسية ودينية لا تمثل غالب المجتمع، أو على الأقل غير مقبولة من كامل مكونات المجتمع.

هذا الانتماء الفئوي الأقلوي بكافة أشكاله: القبلي العشائري أو المهجر والنازح، سيُكون بالطبع مجتمعات متعددة منغلقة على ذاتها، تجمعها وتفرقها عاداتها الاجتماعية المتوارثة، والتي ستحاول التمايز والتفاخر بها عن باقي المجتمعات المحيطة، وذلك في سبيل رفع الأنا الفوقية والمحافظة على حضورها المجتمعي السابق.

لذلك فإن الضرورة الحالية تلزم المعنيين التعامل مع هذا الاختلاف بوقت مبكر، والعمل على سن ضوابط اجتماعية حديثة تلقى القبول من كامل التجمعات، ولن تكفي أجهزة الدولة التقليدية كالمدارس والشرطة لبناء مجتمع متجانس.

بل تدعو الحاجة هنا إلى تفتيت التجمعات الكبيرة، عبر إدخال تجمعات صغيرة ودعمها وتنمية وجودها في محاولة لشرعنة وجودها وقيمها وقبولها من الاخر، مع الانتباه لضرورة منع انتشار الكراهية والحقد، وذلك يكون بسن القوانين التي تمنع شرعنة الاستيلاء على الأملاك الخاصّة وتضع الضوابط اللازمة لحماية الأملاك العامة والخاصة للمكون الأصيل ساكن المنطقة.

تطرح بعض الأفكار نفسها في محاولة لتدارك الانفجار الاجتماعي والسكاني القادم، فالانفجار الاجتماعي والمعروف بأنه انفجار أخلاقي في الدرجة الأولى بسبب وجود ما يقارب الخمسة ملايين فرد مقيمين حاليا في الشمال السوري معرضون لانفجار أخلاقي، بسبب طبيعة المخيمات واكتظاظها وقربها من بعضها وانتشارها على كامل الشمال السوري، مما يعني ارتفاع معدلات الجريمة عند توقف الصراع العسكري ضد الأسد، والذي يُشغل ويستهلك أعداد كبيرة ضمن الفصائل المتعددة والذين سيعودون لحياتهم الطبيعية عند انتهاء الصراع،

ومع غياب السكن اللائق وانعدام البنى التحتية، وقلة أو عدم كفاية مؤسسات الخدمة كالمدارس والبلديات والمشافي، وانهيار الاقتصاد وغياب فرص العمل سترتفع معدلات الجريمة مما يسرع بانهيار المجتمع وتفككه.

يكمن الحل لذلك بإدخال مؤسسات الإعمار، وبناء بنى تحتية وخدمية تتناسب مع حجم السكان مع تأمين وتسهيل القروض من قبل البنوك، وتأمين العمل من خلال إضافة قطاعات اقتصادية جديدة، علماً أن المنطقة بشكلها الحالي تعتمد على قطاعين فقط هما التجارة بأشكالها والزراعة مع غياب الصناعة لانعدام مقوماتها.

تطرح نفسها بعض الأفكار كتأمين العمل ضمن تركيا في المناطق الصناعية الكبرى، عبر إيجاد صيغة يتم بها نقل العمال بشكل نصف شهري أو شهري بين مناطق الشمال والمناطق الصناعية عبر تأمين النقل المباشر وتسهيلات بطاقات العمل عن طريق منحها من قبل المعامل مباشرة دون المرور ببيروقراطية الإدارة التركية.

تحتاج المنطقة إلى إدخال أفكار ومهن صناعية جديدة لم تألفها المنطقة سابقا كزراعة الفطر والزراعات المائية والبلاستيكية والصناعات الغذائية اعتمادا على محاصيل المنطقة، ويجب ألا ننسى أن المنطقة ستكون منطقة مرور التجارة بين تركيا ومناطق النظام مما يعني وجود فرص عمل بهذا القطاع والمصادر حاليا من قبل تجار الفصائل.

ازمة الانتماء السياسي الوطني

(الخروج من الانتماء السياسي دون الدولة أو فوقها نحو الانصهار السياسي الوطني)

يجب علينا التميز بين الانتماء السياسي والانتماء الاجتماعي، فانتماء الفرد لقبيلته أو مدينته السابقة اجتماعيا بشكل مضبوط كما عولج بالفقرة الأولى، لا يمنع أبدا من وجود انتماء سياسي أعلى من القبيلة أو المدينة، وهو انتماء يعرف ومرتبط بأرض الوطن، والذي يحصل المواطن من خلاله على حقوقه السياسية والاجتماعية، ويحافظ على نفسه كفرد وجماعة معترف بوجودها بشكل قانوني أمام المجتمع الدولي.

ونميز أن إعلاء الانتماء الاجتماعي يعزى لموروثات ثقافية قديمة وغياب قيم المساواة، بينما غياب الانتماء السياسي يعزى لوجود نظام ديكتاتوري طائفي ألغى مفهوم الوطن والمواطنة، هذا الأمر يمكن علاجه عن طريق بناء مؤسسات الدولة. وذلك باعتماد دستور معلن يضمن الحقوق، وبتوحيد القوانين الناظمة، وبناء جيش وطني، وشرطة مدنية، والسماح بحرية تشكيل الأحزاب السياسية، والجمعيات والمؤسسات المدنية. ويساهم غياب سلطة النظام الديكتاتوري عن هذه المناطق المحررة بحل مشكلة الانتماء السياسي.

في هذا الموضوع والعنوان لا يمكن الربط بين النظام والمعارضة، ولا يمكن الفصل بينهم أيضا، فالحديث هنا عن الوطن يقتصر على مناطق وجود المعارضة كمناطق محررة، بينما تبقى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام مناطق محتلة، وبالمثل يقوم النظام بالتعامل مع مناطق المعارضة بأنها مناطق محتلة أو خارجة عن سيطرته.

النظام فقد الشرعية السياسية والأخلاقية والاجتماعية، ولكنه لم يفقد الشرعية القانونية بسبب مفاهيم وقوانين بناء الدول الحديثة مما يضعنا أمام مشكلة تعريف الوطن. هنا نكون قد وصلنا لعثرة كبيرة وهي كيفية فهم الوطن بداية.

  • أولا هل هو كامل سوريا أم فقط مناطق الشمال أو مناطق وجود المعارضة.
  • ثانيا كيف سيتم الخروج من الانتماءات الاثنية والتي بغالبها اجتماعية نحو الانتماء السياسي.
  • من الصعب الإجابة على السؤال الأول بشكل نسبي أو الإجابة من قبل المعارضة منفردة أو النظام منفرد.

لذلك يتطلب هذا الأمر وجود فكرة ورؤية أوسع ولا يتم ذلك إلا بإدخال الدول الضامنة، وهذا ما يدور في سوتشي أو سيتم دراسته، والهدف الأول منه كما يبدو هو تعريف الوطن وتحديد حدوده، واعتماد الفدرالية كحل لهذه المشكلة عن طريق تبني دستور موحد، ولن تكون مشكلة الرئيس والانتخابات هي المشكلة الاولى بقدر ما ستكون تبني الفدرالية ومدى الصلاحيات الداخلية والخارجية المعطاة لمناطق الفدرالية.

وذلك لتغطية التقسيم الحاصل وإيجاد صيغة قانونية له، وشرعنة الاحتلال المتواجد على أرض سوريا من خلال إعطاء صلاحيات خارجية وداخلية واسعة لمناطق وإدارات الفدرالية تتيح او تسمح بوجود أجنبي على أراضيها بشكل شرعي.

أما عن كيفية الخروج من الانتماءات الاثنية نحو هوية سياسية وطنية، فستكون عملية تحصيل حاصل لسببين: أن أصل المشكلة هو النظام السوري السابق بسياسته الطائفية والمركزية، ومع وجود الفدرالية فإن هذا من اختصاص مناطق الفدرالية تقوم بتوسيع الأمر وتضيقه بناء على صلاحياتها الواسعة وحاجاتها والضغوطات الدولية عليها من خلال الدول الضامنة.

فالشمال والشرق السوري والذي يعد أصل وموطن المشكلة لوجود إثنيات قومية غير معترف بها من قبل نظام البعث سابقا.

ستتولى إدارات تلك المناطق حل هذه المشكلة بعد تحقيق الاختراقات الاجتماعية اللازمة، والتي تكلمنا عنها سابقا، والتي ستمنع أو تلغي الشعور بالنقصان والحرمان، وتعيد تعريف الشخص بأنه مواطن سوري.

بالطبع هذه الفقرة مرتبطة بما سيتمخض عنه مؤتمر سوتشي واللجنة التي ستضع الدستور والتي من المفترض أن تعالج كل هذه القضايا وتنظمها، وفي حال عدم التطرق لها وإيجاد الحلول اللازمة.

فيمكن القول إن الوجود الشرعي السياسي والقانوني للأفراد الموجودين في مناطق نفوذ المعارضة سينعدم وسيحرمون من حقوقهم السياسية والاجتماعية والقانونية كبدون الخليج. بمعنى عدم وجود هوية سورية أو جواز سفر سوري أو الحق في الانتخابات والبرلمانات.

الاستقرار السياسي والتنوع الاجتماعي (خط الدفاع الاول عن الامن القومي التركي)

مع انطلاق الثورة السورية وخروج أغلب المناطق عن سلطة النظام ظهرت بعض التشكيلات التي سببت الأرق للدولة التركية (pyd). هذا الحزب وما ينطوي تحت أفكاره نحو إقامة دولة قومية كردية، مثل قوات سوريا الديمقراطية أو قوات حماية المرأة، والتي تدعي تركيا ارتباطاتهم مع حزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا والمصنف كحزب إرهابي عالمي.

يعتبر هذا المحدد هو السبب الرئيس خلف التدخل التركي المباشر في سوريا مهما وضعت تبريرات أو عميت الصورة عن هذه الحقيقة بغرض التشويش. صحيح أن تركيا وقفت مع مطالب الثورة السورية وقدمت التسهيلات الاخلاقية لها، إلا أن الخطر الأكبر والسبب المباشر هو التخوف من إقامة دولة على الحدود الجنوبية لتركيا تتخذ من القومية الكردية محدداً لها، مما سينعكس سلباً على أمنها القومي الداخلي لوجود امتداد كردي وخزان بشري كبير داخل تركيا قد يتقد عاطفيا ويتحد فكريا مع الدولة الناشئة، مما يساهم بزيادة رقعتها الجغرافية على حساب السيادة والأرض التركية، وستزداد المواجهة العنيفة الموجودة أصلا ضد حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل.

هذه الامور انتبهت لها تركيا وتُرجمت بتدخل عسكري مباشر، لكن بالطبع فإن التدخل المباشر لن ينهي الموضوع خاصة مع ما خلفه التدخل من تدمير لبعض القرى الكردية، ولتشكل كره عند البعض على أساس قومي ضد تركيا، وبسبب ما خلفته الثورة من عمليات تغير ديمغرافي أدى لزيادة الحقد الكامن ضد الثورة والتدخل التركي معا.

وسط هذا المشهد تتلاحم أكثر وتتحد وتتقاطع بعض مصالح الثورة السورية ببناء دولة مواطنة مع أهداف الأمن القومي التركي، مما يشكل أرضية مشتركة للتنسيق والتعاون أكثر لتأمين ودعم الاستقرار السياسي والاجتماعي في الشمال.

فمن ناحية الاستقرار السياسي، إن اهمال تركيا للمكون الكردي أو الانتقاص من تمثيله أو حضوره ضمن دوائر صنع القرار السياسي، سينعكس سلبا على استقرار أمنها القومي وسينقل الصراع إلى داخل أراضيها عبر امتدادات الكرد القومية.

لذلك فإن المطلوب هو السعي على تمثيل الكرد سياسيا ضمن أروقة الثورة السورية وضمن منصات العمل السياسي في الشمال السوري، وذلك من خلال المساعدة والمساهمة ببناء الدولة الحديثة التي تعتمد على معيار المواطنة لنيل الحقوق بعيدا عن معيار الجنس واللون والدين، وهذا ما يتطابق مع أهداف الثورة السورية المدنية.

وعلى الجانب الاجتماعي، فإن الاستقرار ومنع الانهيار الاجتماعي هو هدف ثوري وتركي معا، وترجمته على الأرض تكون بزيادة التعاون والتنسيق وفتح قنوات الاتصال والتواصل بين المكونات القومية المتواجدة في الشمال المحرر.

وأهم ما في الأمر منع الانفجارات الاجتماعية بكافة أشكالها من خلال العمل على الانتقال نحو مفاهيم العصر الحديث، وترك المحددات القبلية والقومية والإثنية، وعدم العمل بها أو التقييم على أساسها.

إن الانفجار الاجتماعي يعني انفجاراً سكانياً يترجم بعمليات دخول غير مشروع للأراضي التركية وزيادة الثقل على الدولة خاصة مع رفض بعض الأحزاب التركية الوجود البشري السوري داخل تركيا.

كما ينبغي الإسراع في تشكيل المجالس والإدارات المحلية، وتسهيل وتسريع عمليات الإسكان من خلال دمج المكونات الاجتماعية ضمن مدن حديثة تمنع حدوث أي توترات يكون أساسها ناتج عن مصادرة الأملاك والاستيلاء على البيوت.

كما ينبغي إنهاء حالة المخيمات والتوجه نحو البناء الحديث، ويمكن استذكار التجربة اللبنانية ومساوئ بقاء المخيمات الفلسطينية دون تخديم أو معالجة، مما سبب ويسبب إلى الآن حوادث وانفجارات أمنية واجتماعية في الداخل اللبناني، مما يساعد على زيادة الشرخ الاجتماعي ويقيد الاستقرار والأمن الوطني اللبناني.

يمكن وضع فكرة مفادها أن البنية الاجتماعية الصحيحة ستصنع سلطة سياسية واعية، وأن المجتمع المتجانس سينتج دولة عصرية ذات سياسة اجتماعية فاعلة وديمقراطية، وأن السلطة الفاسدة ستعمل على شرذمة وتدمير المجتمع في سبيل البقاء في الحكم كما فعل نظام الأسد.

خاتمة

مع انحسار مناطق نفوذ المعارضة وانتقالها لطورها السياسي والاجتماعي وانتهاء العسكرة والفصائلية، وبعد عمليات التهجير والتغير الديمغرافي وازدياد اعداد السكان في مناطق نفوذ المعارضة، وقلة الخدمات وانعدام البنى التحتية اللازمة والمطلوبة للسكان، سترتفع معدلات الجريمة والانفجارات الاجتماعية، وستدخل مناطق المعارضة في دوامة الفوضى مما يعني ضرورة الانتباه لهذه المرحلة واستباقها بخطوات وحلول تمنع الانفجارات الاجتماعية، وتساهم بتوطيد الاستقرار السياسي ووضع أسس ولبنات الدولة الحديثة.

ويكون ذلك من خلال الإسراع في عمليات إعادة الإعمار بمناطق المعارضة، وتأهيل البنى التحتية، ودراسة إدخال مهن جديدة تتناسب مع اقتصاد المنطقة وطبيعة سكانها، وتقوية مؤسسات الثورة المدنية كالشرطة والمدارس والمستشفيات، والإسراع في إنهاء ملف الوجود الفصائلي في بعض المناطق والمصنف بشكل إرهابي.

إضافة إلى تضيق دائرة الفوضى الناتجة عن ذلك لأصغر مساحة، والعمل على تجهيز قيادات شابة تقود المرحلة وتضع الخطط والبرامج، وتستعد لما قد يتمخض عن مؤتمر سوتشي، والذي بات البوابة الرئيسة لحل الأزمة السورية بعد إعطاء الضوء الاخضر الأمريكي للرؤية الروسية للحل، وأهم ما في الأمر البدء ببناء المجتمع بأسس سليمة، وإعطاء مساحة واسعة للاهتمام به وجعله على سلم أولويات قوى الثورة.

هيثم البدوي

كاتب سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق