العلاقات الإيرانية-السورية: (1) الفترة 1979-2010

مقدمة:

يشكل العالم العربي الوجهة الأساس للاستراتيجيات الإيرانية المتعاقبة، اعتماداً على بناء فكري أسطوري يرمي إلى بناء قوة إقليمية كبرى، تتوجه نحو محيطها في المشرق والخليج العربيين، وكانت سورية أولى الخطوات في المشروع الإيراني بعد ثورة 1979.

ويعتبر محمد حسين منتظري (منتظري الابن)، مؤسس الحرس الثوري الإيراني، منظّر هذه العلاقات، وواضع فلسفتها. وهو أحد الكوادر التي عملت تحت ظلال خميني حين كان في منفاه بالعراق. وقبيل انتصار الثورة الإيرانية، مثّل منتظري الابن همزة الوصل بين خميني وعدد من القوى السياسية في الساحة العربية، بينها حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح). إذ كانت لديه رؤية مفادها أن الثورة الإيرانية الوليدة لا يُمكن أن تقف على قدميها إلا بالارتكاز إلى منظومة وثيقة من التحالفات مع كافة القوى التي تشاركها الأهداف الأساسية، وأن هذه التحالفات تُعد جزءاً من الثورة ذاتها “ثورة مستمرة لا دولة مستقرة”، وعلى خلفية رؤيته هذه، تحرك منتظري الابن لوضع اللبنات الأولى لعلاقات إيران مع عدد من الدول الموصوفة حينها بالراديكالية في العالم العربي، بما في ذلك سورية وليبيا واليمن الجنوبي، فضلاً عن حركة فتح. وكان يحظى في تحركه هذا بدعم من خميني وبقية قادة الثورة الإيرانية، كالمرشد الحالي علي خامنئي، والرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني. وعلى أساسها تقاطرت الوفود الإيرانية على دمشق طارحة الكثير من التصوّرات الداعية في مجملها إلى إقامة روابط خاصة ومتقدمة، وذلك بعد أسابيع فقط من انتصار الثورة الإيرانية (1). فيما يمكن وصفه بالتوجه الإيراني نحو الدول الهشة أو الرخوة سياسياً في العالم العربي.

وتتناول هذه الدراسة طبيعة العلاقات الإيرانية-السورية على مرحتلين زمنيتين، تتميزان عن بعضهما بفاصل الثورة السورية وما أحدثته من تدخل عسكري إيران مباشر في قمع الشعب السوري ومساندة نظام الأسد الابن، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وقد ارتأينا فصل المرحلة الثانية في دراسة خاصة، لما تحمل من مقومات وأبعاد تختلف عن النمط الذي ساد علاقة الدولتين طيلة الفترة السابقة لعام 2011، أي قبل اندلاع الثورة السورية.

المرحلة الأولى 1979-2010: وتشمل ثلاثة أنساق للعلاقة بين الطرفين (المأسسة، تعزيز العلاقات، الاستقواء).

المرحلة الثانية 2011-2013: وهي مرحلة الهيمنة الإيرانية على النظام السوري، عبر ما يمكن وصفه باحتلال إيراني لسورية.

أولاً- مرحلة مأسسة العلاقات:

كانت الأهداف في السعي الأول لمأسسة علاقات إيرانية-سورية، تتقارب لدى نظامي الحكم، فكلاهما يسعى إلى تكريس ذاته في مواجهة ضغوط خارجية وداخلية معاً. فالنظام الإيراني الوليد حينها كان يرمي إلى تعزيز ثورته عبر ترسيخ بنية النظام السياسي داخلياً من خلال استجلاب شرعية خارجية، وهي فكرة تصدير الثورة، التي عُبِّر عنها من خلال الحرب مع العراق.

في المقابل برع نظام الأسد الأب في استجلاب الشرعية الخارجية على حساب الداخل، بغية تكريس حكم دكتاتوري كان يواجه ضغطاً داخلياً معارضاً، وصل إلى حد الصدام المسلح عام 1982، وضغوطاً خارجية تهدد استمراره سواء على الجبهة اللبنانية التي كان قد احتلها منذ عام 1976، أو في تصاعد التوتر في علاقاته على الجبهة الشرقية مع العراق منذ عام 1979، وابتعاداً عن الحليف التقليدي المصري (بعد اتفاق كامب ديفيد) ومنذ 1973، وتوترات في علاقاته مع دول مجلس التعاون الخليجي.

أي إنّ النظامين كانا معزولين إقليمياً، ويواجهان تحديات مشتركة، تتقاطع أبرزها في العراق، إذ سعى خميني من خلال حرب الخليج الأولى (1980-1988) إلى تقويض المنافس الإقليمي الأكبر له (العراق) وفتح الباب أمام تصدير ثورته عربياً، فيما سعى الأسد الأب في موقفه من تلك الحرب إلى تقويض المنافس الإيديولوجي والقوة الإقليمية التي تهدد استقرار نظامه وشرعيته الإيديولوجية.

وأصبح النظام البعثي “العلماني” الذي كان يحارب (الإخوان المسلمين) في سورية، مدافعاً عن حركة إسلامية شيعية راديكالية معادية للممالك السنية في المنطقة. ولعل الخصومة مع العراق هي التي سببت هذا التحول في السياسة السورية الخارجية، فكان حافظ الأسد يسعى بأي ثمن إلى منع الانتصار العراقي في الحرب، لأنّ مثل هذا الانتصار كان سيعيد إلى الجار العراقي قوته الإقليمية من جديد. أما إيران التي ناهضت العراق في إطار حرب كلفتها الكثير، فكانت توفر للأسد الأب وسائل عدة لتحييد خصمه فيما يتعلق بالصراع العربي-الإسرائيلي، وأيضاً فيما يخص لبنان. ووفقاً لـ إليزابيت بيكار، فإنه “بصرف النظر عن القطيعة مع العراق، يدخل الخيار السوري في إطار خلافات متزايدة مع الدول العربية، ولاسيما السعودية بخصوص لبنان والنزاع العربي-الإسرائيلي. ولعل التحالف بين دمشق وطهران، هو بالدرجة الأولى مؤشر على عزلة سورية في المحيط العربي، ومحاولة لإيجاد بديل لهذه العزلة” (2).

وقدمت هذه العلاقات شرعية إقليمية للنظام الإيراني ودعماً لنظام الأسد الأب سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، سواء عبر الدعم المالي أو عبر الإسناد العسكري للقوات السورية في لبنان، كما مثلت مخرجاً لأزمة شرعية نظام الأسد الأب، ساعدته على الاستمرار في الحكم لعقود لاحقة.

كما استطاعت القوات السورية الحصول على هامش تحرك أوسع في لبنان بفضل الوجود الإيراني في هذا البلد من خلال حزب الله (الذي أنشأته إيران لإسناد قوات الأسد في صراعه مع إسرائيل للهيمنة على لبنان). وعلى المستوى الاقتصادي زودت إيران سورية بـ 5 مليون طن من النفط سنوياً، منها طن مجاني، بينما تعزز موقف دمشق المالي مع تنمية السياحة الشيعية والتعاون الاقتصادي الثنائي. حيث أصبحت إيران تشكل أهم سوق بالنسبة إلى الاقتصاد السوري ولاسيما فيما يخص السياحة الدينية، ففي عام 1984 زار أكثر من 160 ألف إيراني سورية. وقد استغلت دمشق هذه العلاقة لتقترض من طهران مبالغ كبيرة دون أن تكون لها نية سداد هذه المبالغ في المستقبل. وقد سهل التضامن الطائفي بين إيران الشيعية ونظام الأسد الأب من التقارب بين البلدين بقيادة الأقلية العلوية. غير أن حافظ الأسد لم يكن يسعى لتشكيل محور شيعي يصل إلى جنوب لبنان، وذلك لأسباب تتعلق بالاستقرار الداخلي والتوازن الطائفي. لذا لم يكن النظام السوري يسعى لتكريس انتقال الثورة الإسلامية إلى العراق أو إلى لبنان موضع نفوذه. كما أنه كان يخشى ضعف شريكه اللبناني، أي الميليشيا الشيعية (أمل) التي كان خميني وأنصاره في لبنان ينتقدون توجهاتها العلمانية (3).

لذا احتفظ الأسد الأب بشيء من استقلالية القرار في علاقاته مع إيران، وخاصة لناحية الامتداد الثوري “الشيعي” سواء في سورية أو محيطها، مع المحافظة على الأطر الشكلية العقائدية لتوجهاته البعثية، المتمثلة في البعد العربي، عبر مناصرة بعض من القضايا العربية من جهة، ومحاولة ترميم العلاقات السورية-الخليجية والتقرب من دول الخليج بغية الحصول على دعم مالي أكبر منها. أو حتى لناحية الانفراد بالقرار على الساحة اللبنانية فيما يشبه توزيع المكاسب، ففيما أقر الأسد الأب للنظام الإيراني “مشروعية حربه مع العراق”، حصل في المقابل على إقرار إيراني بالدور السياسي والعسكري السوري في لبنان، والرؤية السورية للصراع العربي-الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، وأطر التحالفات داخلها.

فيما استمر نظام الأسد الأب مع عدة جهات دولية، بتمرير كميات من الأسلحة سوفيتية الصنع إلى النظام الإيراني لتعزيز موقفه في حرب الخليج الأولى، وخاصة بعد تقدم القوات العراقية في إقليم الأحواز العربي، بغية تعديل الميزان العسكري لصالح القوات الإيراني، التي استطاعت في مراحل لاحقة من إرجاع الجيش العراقي إلى الحدود الدولية.

ورغم تقارب استراتيجية الطرفين، فقد كانت لديهما أهداف منفصلة جعلتهما أحياناً يدخلان في حالة من التنافس، إذ كان لطهران طموحات تتعلق بالنزاع العربي-الإسرائيلي لا تتوافق مع دمشق التي كانت ترفض ضم إيران إلى جبهة الممانعة. وكثيراً ما تجاهل الأسد الأب اقتراح إيران بإرسال الحرس الثوري للقتال في كل من إسرائيل ولبنان. فخلال الاحتلال الإسرائيلي للبنان عام 1982، منع السوريون الحرس الثوري الإيراني من مغادرة دمشق، ولم يصل سوى 100 من عناصر هذا الحرس إلى البقاع حيث دربوا مقاتلي الميليشيات الشيعية اللبنانيين. وكلما أرادت سورية الضغط على حليفتها منعت المسلحين الإيرانيين والأسلحة من المرور من أراضيها إلى لبنان. وأصبح الطرفان يتواجهان من خلال حلفاء آخرين ولاسيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والسيطرة على (حزب الله)، المنافس الأول لميليشيا “أمل”. ونسوق مثالاً على ذلك، الحرب بين التنظيمين الشيعيين (أمل وحزب الله) في أيلول/سبتمبر 1987 للسيطرة على ضاحية بيروت الجنوبية وجنوب لبنان. غير أن نهاية هذا النزاع أظهرت صلابة العلاقة الاستراتيجية بين الدولتين، إذ فضلت إيران أن ترضي سورية على الجبهة اللبنانية، لتحتفظ بدعمها على الجبهة العراقية، ما أجبر (حزب الله) على القبول بأية قواعد تفرضها سورية. ورغم أن علاقة القوة كانت لصالح الميليشيا المقربة من إيران (حزب الله)، جاء اتفاق كانون الثاني/يناير 1989، المبرم بين التنظيمين، ليعزز موقف (أمل) وسورية. بالمقابل حاول الأسد الأب تسويق دعمه الدبلوماسي لطهران في دول الخليج العربي (4).

وقد شهدت هذه الفترة، تأسيساً لما سيظهر لاحقاً من تغلغل مذهبي شيعي للنخب الإيرانية في المجتمع السوري، وإن كان محدوداً في حجمه، لكن بنيانه كان استراتيجياً سيتم توظيفه في فترات تاريخية لاحقة في عملية عبث من قبل النظامين بالتركيبة السكانية في سورية.

ويمكن اعتبار نهاية عقد الثمانينيات من القرن العشرين، مع وفاة قائد الثورة الإيرانية خميني، ونهاية حرب الخليج الأولى، واندلاع حرب الخليج الثانية مع التغييرات الكبرى الحاصلة في البيئة الدولية لناحية شكل النظام الدولي، نهاية لمرحلة المأسسة، حيث أدت جملة التغيرات تلك إلى انكشاف سورية إقليمياً ودخولها في مرحلة الاستقواء السوري بالإيراني على المستوى العربي والإقليمي، والاستقواء الإيراني بالسوري في تغلغله في البيئة العربية.

ثانياً- مرحلتا تنميط العلاقات:

شهدت هذه المرحلة تغيرات في بنية العلاقات الإيرانية-السورية، ترافقت مع التغيرات الكبرى الحاصلة على مستوى الإقليم ومستوى النظام الدولي. إذ أخرجت حرب الخليج الثانية القوة العراقية من الحسابات السورية والإيرانية معاً، وغدا العراق مجرد دولة (حاجز بري) بين الحليفين لا أكثر، دون أن يشكل تهديداً لأي منهما كما في السابق.

لكن غياب الحليف السوفييتي بالنسبة لسورية، وانتهاء الحرب الأهلية في لبنان، بعد اتفاق الطائف، وانعقاد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، وضع النظاميين أمام شكل جديد من العلاقات الإقليمية، خاصة مع انخفاض الاندفاع الإيراني في “سياسة تصدير الثورة” لصالح إعادة ترتيب الوضع الداخلي اقتصادياً والمتأزم من حرب الخليج الأولى، أو لناحية سعي نظام الأسد الأب إلى الاندماج عربياً عبر التقارب مع دول مجلس التعاون الخليجي ومع مصر، ومحاولة التقارب مع الولايات المتحدة، وانفتاحه الاقتصادي المتدرج.

وقد شكلت مشاركة القوات السورية إلى جانب القوات الدولية في حرب الخليج الثانية، عاملاً ضاغطاً على العلاقات مع إيران، وخاصة مع انضمام سورية إلى تحالف “إعلان دمشق” القاضي بمشاركة قوات سورية ومصرية في ترتيبات أمن دول الخليج العربي، وهو ما يتناقض مع المطامع الإيرانية في تلك الدول، وخاصة في البحرين والكويت وجزر الإمارات المحتلة، لكن مسارعة إيران إلى احتواء نظام الأسد الأب، عبر جولات من المحادثات، دفع المسؤولين الإيرانيين إلى التعبير عن غضبهم من سياسات مصر وحدها ضمن ترتيبات “إعلان دمشق”.

وتميز عقد التسعينيات في العلاقات البينية بين الطرفين، بفترة من الهدوء في تلك العلاقات، إذ اكتفى الطرفان بتأكيد علاقاتهما المميزة من ناحية، مع سير نمطي تقليدي للعلاقات بين الدول، وحجم تبادل تجاري محدود، ودعم للسياسات والمواقف العامة لكلا الطرفين، دون أن تشهد تلك الفترة تصعيداً في التقارب كما سيحصل في العقد اللاحق لذلك. والذي تميز بأنه عقد الضغوطات الكبرى على الطرفين معاً، مع انفضاض كثير من حلفاء الأسد الابن عنه، نتيجة إخفاقاته الخارجية، مما دفعه للاستقواء بالنظام الإيراني في مواجهة الضغوط الغربية من جهة، والابتعاد العربي عنه من جهة أخرى.

أي أن العلاقات بين الطرفين اتخذت منحى نمطياً، كسائر العلاقات الدولية الودية، مع التفضيل الاستراتيجي الممنوح لإيران على مستوى السياسات الكلية،والتوجه العام للدولتين.

ثالثاً- مرحلة الاستقواء:

وضعت حرب الخليج الثالثة والاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، كلاً من سورية وإيران على فوهة بركان، وكانت الدولتان هدفاً لاحقاً في مساره، وفق ما تقوله المذكرات والوثائق المتداولة. وعلى الرغم من أن سوريا وإيران تبنتا مقاربتين مختلفين للتعامل مع الغزو الأميركي للعراق، إلا أنهما اشتركتا في الشعور بالخطر المحدق، غير الافتراضي أو بعيد المدى. على خلفية التطورات الكبرى هذه، تسارعت وتيرة التعاون السوري-الإيراني، واتسع نطاقه، ليشمل جملة عريضة من القضايا الثنائية والإقليمية. وفي هذا الإطار برز التعاون العسكري، الفني والتقني بين الدولتين، وخاصة على صعيد الصناعات الصاروخية. وتشير التقارير الغربية المتاحة إلى أن هذا التعاون قد بدأ فعلياً بدعم سوري للبرامج الإيرانية الناشئة، قبل أن تصبح إيران داعماً رئيسياً للتصنيع العسكري السوري عامة، والصاروخي خاصة. وقد ارتدى هذا التعاون مدلولاً جيوسياسي، مع الدعم الإيراني-السوري المشترك لحزب الله في لبنان، حيث نقلت سورية عملياً تجربتها الصاروخية للحزب (5).

وترافق ذلك مع إعادة طرح فكرة “تصدير الثورة الإيرانية” بأطر صلبة عسكرية، بعد أن اتخذت منحى سياسياً-اقتصادياً في العقد السابق، فمع وصول الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد إلى السلطة عام 2005، تم إحياء كثير من الطموحات الإيرانية، التي تم التأسيس لها في الفترات السابقة، وخاصة في تحدي الدور العربي، والتغلغل السياسي-الهوياتي في عدد من المجتمعات العربية.

هذا الموقف الإيراني انعكس أيضاً من خلال وصول العديد من رجال الأعمال الإيرانيين إلى دمشق للاستثمار فيها. ونسق البلدان سياستهما من أجل مواجهة التحديات الجديدة. لكن مع إخفاق السياسة الأمريكية في العراق، استفادت إيران الكثير، وزادت من نفوذها في هذا البلد، بينما أصبحت سورية معزولة وتشهد الكثير من الصعوبات على جبهتها الغربية (وخاصة بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري). وبذلك أصبحت إيران الطرف القوي في هذه اللعبة (6).

كما شهدت العلاقات زخماً أكبر إثر استدراج حزب الله لإسرائيل في عدوانها على لبنان عام 2006، حيث أعاد هذا العدوان تشكل التحالفات الإقليمية وتوسع ما اصطلح على تسميته بـ “محور المقاومة والممانعة” ليشمل دولة قطر كذلك، في محاولة فرض أجندات إيرانية على العالم العربي، بل وبلغ استقواء الأسد الابن بالنظام الإيراني حد خروجه عن الأعراف الدبلوماسية بتطاوله على الحكام العرب حين رفضوا منطق الانجرار في مغامرات عسكرية لإيران وحزب الله التي ترمي إلى إشعال المنطقة، على غير حساب المنطقة العربية، وتوظيف العامل الديني في استخراج فتاوى دينية تخدم الأغراض السياسية للمشروع الإيراني.

إذ دفعت إيران نحو عسكرة إقليم المشرق العربي عبر استدعاء الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان تحديداً، بغية استعراض للقوة الإيرانية أمام الدول العربية من جهة، وأمام الولايات المتحدة من جهة أخرى بغية الحصول على مكاسب سياسية في المنطقة.

هذه العلاقة المميزة أدت في حزيران/يونيو 2006 إلى إبرام اتفاق دفاع مشترك قال الإيرانيون بشأنه “إن إيران تعتبر أمن سورية من أمنها”. ويتعلق التعاون العسكري بإمداد سورية بالأسلحة البالستية ويهدف إلى تحسين قدرات دفاع الجيش السوري. وبتطوير أسلحة غير تقليدية وبتدريب عسكريين سوريين في إيران. وكان للحرس الجمهوري السوري مستشارون إيرانيون. كذلك ساهم الإيرانيون في تحديث نظام الاتصالات الخاص بالرئاسة السورية. غير أن التعاون مع طهران قد أثر كثيراً في التوازنات الداخلية السورية، إذ كان جزء من كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين يعرفون أن دمشق غير مستعدة لتحمل نتائج الانضمام إلى طهران، ولاسيما أن الجمهورية الإسلامية كانت تتحدى المجتمع الدولي وتعرض نفسها لردود فعل انتقامية، وكذلك لعقوبات وحتى ضربات عسكرية (7).

ويقول خبير عسكري إن “السوريين يتوخون الحذر الشديد حتى لا يعتبرهم أحد تحت إمرة إيران”. لكن على عكس ما حدث في الثمانينيات، أصبحت إيران طرفاً أساسياً على الساحة الإقليمية، بينما ازداد الموقف السوري ضعفاً. دون أن يعني ذك أنّ دمشق فقدت قدرتها على التأثير في المنطقة، أو أن طهران أصبحت تملي عليها قواعد اللعبة. ففي هذا التحالف غير المتكافئ، لم يكن الأقوى يفرض خياراته على الأضعف، إذ كانت سورية تحظى بهامش للتحرك، كما أن إيران كانت بحاجة إليها للاستمرار في التأثير في الساحة شرق الأوسطية، إذ ظل حلفاؤها الفلسطينيون يتخذون من سورية مقراً لهم، كذلك بقيت دمشق محطة لتمويل (حزب الله). وقد جرى تأكيد ما اتفق عليه ضمنياً في عقد الثمانينيات، أي هيمنة طهران في الملف العراقي ودمشق في الملف اللبناني (8).

كما أن إفساح المجال أمام هامش سياسي للنظام السوري من قبل إيران، كان في مصلحة إبقاء سورية ضمن المنظومة العربية، وبالتالي المحافظة على البعد العربي في السياسة الخارجية الإيرانية، وإحداث شروخ في التوجهات العربية، من خلال الأداة السورية.

واعتبرت القيادات الإيرانية الدفاع عن النظام السوري جزءاً من الدفاع عن الأمن القومي الإيراني، حيث صرح الرئيس السابق نجاد في أول زيارة له إلى سورية: “إنّ سورية هي خط الجبهة الأمامي للدفاع عن الأمة الإسلامية”. وأكد وزير الدفاع الإيراني السابق شمخاني على أنّ: “سورية عمق استراتيجي لإيران، وهي جزء من الأمن القومي للجمهورية الإيرانية في المنطقة، وتولي طهران دائماً أهمية لأمن الأراضي السورية (9) “.

وأشارت عدة تقارير إلى أنّ إيران تكفلت بتمويل بعض مشتريات السلاح السورية من روسيا، وذلك خلال الزيارة الثانية قام بها الرئيس الإيراني السابق لدمشق تموز/يوليو 2007، جرى خلالها الاتفاق على قيام إيران بتمويل صفقات أسلحة روسية لسورية (10).

وجاءت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد لطهران عام 2008 في وقت دقيق لسورية، فبعد أن كانت دمشق تقدم نفسها زعيمة جبهة “الممانعة العربية”، اندفعت للتفاوض مع إسرائيل بوساطة تركية، وشاركت في مؤتمر “الاتحاد من أجل المتوسط” في باريس والذي كان من أهم أهدافه دمج إسرائيل في المنطقة والتطبيع معها. وكانت زيارة الأسد الابن ترمي إلى نفي التوقعات والتخمينات بأن التوجهات السورية الجديدة ستكون على حساب علاقاتها الاستراتيجية مع إيران، خصوصاً مع الغموض الذي رافق عملية اغتيال عماد مغنية ونتائج تحقيقاتها والحديث عن ضربة عسكرية لإيران (11).

حيث كان بشار الأسد قد أبلغ وفداً من أعضاء الكونغرس الأميركي زاره في دمشق، أنه يدرك أنّ علاقات سورية وثيقة مع الولايات المتحدة ستكلفه بعض العلاقات، خصوصاً تلك التي مع (حزب الله وحماس)، لكنه كان واضحاً بأن لا ترفع الإدارة الأميركية الجديدة أو إسرائيل، سقف التوقعات بالنسبة إلى علاقة سورية بإيران (12).

ويلاحظ تكرار زيارات الأسد الابن لإيران منذ توليه الحكم، حيث زار الأسد الابن إيران عقب تسلمه للحكم عام 2001، لتأكيد تحالفه مع إيران، وإظهار البعد الخارجي في سياسته عبر تعزيز ربطها بالقوة الإيرانية على حساب البعد العربي، كما زارها ثانية حين تولى نجاد سدة الحكم عام 2005، وأعاد زيارتها مرة ثالثة عام 2008، وكرر الزيارة عام 2010، لتكون أكثر الوجهات على قائمته الخارجية. على خلاف والده الذي لم يقم سوى بزيارة واحدة إلى إيران عام 1990.

ووصف الأسد الابن علاقته بإيران في زيارته عام 2005 لطهران: “يعتقدون بأن العلاقة مع إيران كأنها علاقة مع عدو، وهذا الكلام غير مقبول في سورية، إيران بلد صديق، بلد جار، بلد هام في المنطقة حتى لو اختلفنا معه، فالأفضل أن نذهب إلى إيران ونقول لها أنتِ أخطأتِ، نحن نختلف معكِ (13)”.

وشهدت العلاقات على المستوى الاجتماعي- العقائدي تطوراً مهماً في هذا العقد، إذ أطلقت الحكومة السورية العنان للجمعيات التبشيرية الشيعية المدعومة من الحكومة الإيرانية، لتنشط في معظم المدن والأرياف السورية، على المستوى السني بالتحديد، والعلوي بشكل محدود، عبر تقديم معونات مالية نقدية أو عينية أو استطبابية، وتوسيع الحوزات الشيعية في غير مناطق التواجد الشيعي، وإدارة إيرانية مستقلة للمقامات الشيعية خارج إطار السلطة السورية، حيث تم إنفاق ملايين الدولارات على تطوير تلك المقامات، بغية استيعاب العدد المتزايد من السياحة الدينية الشيعة. كما سعت إيران إلى استقطاب نخب بعينها، سواء عبر تشييع تلك النخب، أو تمويل نشاطاتها بغية تجنيدهم ضمن المشروع الإيراني (استئجار العقول والأقلام)، تحت إشراف مباشر من مكتب المرشد في طهران، وعبر أذرع حزب الله في سورية، ومنهم على سبيل المثال، مكتب آل البيت في حلب وريفها بقيادة (السيد عبد الصاحب الموسوي) ممثل المرشد الإيراني علي خامنئي.

كما شهدت دمشق وريفها اتساعاً كبيراً في الحوزات الشيعية، حتى باتت ثالث أكبر حوزة في العالم بعد حوزة (قم) في إيران وحوزة (النجف) في العراق. وتكشف الإحصائيات عن وجود 500 حوزة علمية وحسينية في سورية تتوزع على المدن السورية يدرِّس فيها الآلاف من رجال الدين الإيرانيين (14).

كما أقدمت الحكومة السورية في ذات الفترة، باعتقال كثير من الناشطين الأحوازيين الحاصلين على حق اللجوء السياسي في سورية، أو حاملي الجنسيات الأوروبية منهم، وإيداعهم المعتقلات السورية، وتعريضهم لحملات تعذيب قبل تسليمهم للحكومة الإيرانية التي حكمت على كثير منهم بالإعدام أو بالسجن المؤبد، والتضييق على نشاط من بقي منهم في دمشق، وخاصة الطلاب منهم.

أما على مستوى العلاقات التجارية بين الطرفين، فقد شهدت توسعاً ملحوظاً في ذات الفترة، رغم بقائه على المستوى الرسمي دون كثير من العلاقات التجارية للدولتين مع الدول الأخرى. وظّل الميزان التجاري يميل إلى صالح طهران بنسبة كبيرة جداً، على حساب الاقتصاد السوري.

شكل رقم (1)

حجم التبادل التجاري بين إيران وسورية (مليون دولار) (15)

tejarairansyria

إذ لم تسجل الصادرات السورية إلا نسبة محدودة في تلك العلاقات، لتبلغ أوجها في أعوام 2006-2007-2008 بنسبة تراوحت بين الربع والثلث، قبل أن تعود للهبوط ثانية إلى نسبة متدنية جداً.

شكل رقم (2)

نسبة الصادرات السورية في الميزان التجاري السوري-الإيراني (%) (15)

tejarairansyria1

واستثمرت إيران أموالاً كثيرة ومصادر ومهارات وعمالاً في سورية، وتكثفت هذه الاستثمارات على وجه التحديد في السنوات القليلة التي سبقت الانتفاضة التي انبثقت في آذار/مارس 2011 في سورية. إلا أنّ العلاقات الاقتصادية الإيرانية-السورية لا تقتصر على تلك المبالغ الكبيرة من الأموال والمصادر التي خُصصت للاستثمارات في وسائط النقل والبنية التحتية السورية. ذلك أنّ السلطات الإيرانية وقعت قبل أشهر قليلة من اندلاع الثورة الشعبية اتفاقية للغاز الطبيعي بقيمة 10 مليار دولار مع سورية والعراق لبناء خط أنابيب للغاز يبدأ في إيران ويمر في سورية ولبنان وصولاً إلى البحر المتوسط حتى يصل إلى عدد من الدول الغربية. ووفق هذه الاتفاقية، فان العراق وسورية سيحصلان على كميات معينة من الأمتار المكعبة من الغاز الطبيعي كل يوم. وحظي هذا الاتفاق بموافقة المرشد الأعلى علي خامنئي الذي أقر بتخصيص مبلغ 5.8 مليار دولار كمساعدة لسورية من مركز الأبحاث الاستراتيجية الذي يركز في أعماله على استراتيجيات إيران في ستة مجالات مختلفة بما فيها أبحاث السياسة الخارجية، والشرق الأوسط والخليج العربي وأبحاث الاقتصاد السياسي الدولي (16).

كما أُبرم تعاقد مهم آخر قبل اندلاع الثورة في سورية بغرض تأسيس بنك مشترك في دمشق، تملك فيه الحكومة الإيرانية 60%. والمفروض أن يسمح الاتفاق لإيران بتعيين مواقع مالية أخرى تتم فيها تحويلاتها إلى سورية. وكان يُسمح للبنوك السورية في ذلك الوقت بالتعامل في النواحي التجارية والتحويلات مع الدول الغربية قبل فرض العقوبات بعد انطلاق الثورة (17).

خاتمة:

أدت الثورة السورية التي اندلعت في آذار/مارس 2011، إلى تغيرات كبرى في العلاقات الإيرانية-السورية، حيث اتخذت وبشكل متصاعد منحى تدخلي واسع على المستوى السياسي والعسكري حتى بات الجيش الإيراني ركيزة أساسية من ركائز الحرب على الشعب السوري، مع انحسار دور الدولة السورية، وانخراط كثير من الميليشيات العراقية واللبنانية التابعة لإيران في تلك الحرب. لذا سنسعى في القسم الثاني من هذه الدراسة إلى تبيان مسار العلاقات الثنائية الإيرانية-السورية في ظلّ تلك المتغيرات.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث 

 

مراجع:

(1) كارولين دوناتي، الاستثناء السوري بين الحداثة والمقاومة، ترجمة: لما العزب (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى، 2012)، ص 160.

(2) المرجع السابق، ص 161.

(3) المرجع السابق، ص 162-163.

(4) المرجع السابق، ص 160-164.

(5) عبد الجليل زيد المرهون، “قصة العلاقات السورية الإيرانية”، الجزيرة نت، 21/8/2013، في: www.aljazeera.net.

(6) كارولين دوناتي، مرجع سابق، ص 280-283.

(7) المرجع السابق، ص 280-283.

(8) المرجع السابق، ص 280-283.

(9) أشرف كشك، “التحالفات الإقليمية لإيران .. السياسة تتجاوز الإيديولوجيا”، السياسة الدولية، العدد 165، يوليو 2006، ص 117.

(10) أحمد إبراهيم محمود، “الصناعات العسكرية الروسية: تدعيم الاقتصاد والمكانة الدولية”، السياسة الدولية، العدد 170، أكتوبر 2007، ص 66.

(11) ياسر سعد، “العلاقات السورية-الإيرانية”، صحيفة العرب القطرية، العدد 7359، 5/8/2008.

(12) هدى الحسيني، “العلاقات السورية-الإيرانية تراجع أم تنشيط؟”، صحيفة الشرق الأوسط، العدد 11034، 12/2/2009.

(13) أميرة اسماعيل محمد العبيدي، “العلاقات السورية-الإيرانية في عهد الرئيس السوري بشار الأسد”، مجلة التربية والعلم، المجلد 7، العدد 3، 2010، ص 4.

(14) “500 حوزة علمية وحسينية في سوريا… المزارات الإيرانية تغزو دمشق تمهيداً لفتح خيمة معاوية”، موقع فيصل نور، www.fnoor.com.

(15) الإحصائيات مستقاة من: “دراسة عن العلاقات الاقتصادية بين الجمهورية العربية السورية وجمهورية إيران الإسلامية”، إعداد: دائرة الدراسات في غرفة تجارة دمشق، الإصدار 2، 2012.

(16) “تحليل العلاقات الإيرانية السورية من خلال منظور الدور الإيراني المعقد في سوريا”، صحيفة القدس، 6/1/2013، في: www.alquds.com.

(17) المرجع السابق.

الوسم : إيرانسورية

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق