تداعيات الانفصالية الكردية في الشرق الأوسط

تتسع الأزمات المنفلتة في الشرق الأوسط يوماً بعد يوم، ولا يبدو أنها في طور الانضباط في السنوات القليلة المقبلة، بل هي تتسع لتشمل كافة الفاعلين الدوليين، وما دونهم. لتتحول الأزمة القائمة في الشرق الأوسط من حالة اشتباك إقليمي إلى حالة صراع مصلحي-أيديولوجي متسع الآفاق، يجد روافده في الانهيارات السياسية والعسكرية المتلاحقة من جهة، وفي استحضار مطالب تاريخية قد يعود بعضها لمئات أو حتى آلاف السنين، تمّت صياغتها وتنقيحها مراراً بهدف التوظيف السياسي اللاحق لها.

ويحمل هذا الصراع الصفة الصفرية، من خلال دفع كل طرف فيه، إلى اكتساب مصالح مطلقة، غير قابلة للتفاوض والمساومة مع الأطراف المتصارعة الكثيرة الأخرى. وهو ما يزيد حدّة الصراعات من جهة، ويدفع إلى توسيعها إلى محيط جغرافي أكبر من جهة ثانية، واستدعاء كافة القوى الدولية إليها من جهة ثالثة.

من ذلك، يعود الأكراد إلى طروحاتهم التي تمّ الاشتغال عليها طيلة العقود الماضية، وتمّ التأسيس لإتمامها خلال العشرية المنصرمة، ببناء دولة مستقلة منفصلة عن الإطار العراقي، عبر حالة فرض الأمر الواقع، خارج –ما أوردناه- إطار أدوات المساومة والتفاوض مع الأطراف الأخرى. وليس وفق ما اتُّفق على صياغته فيما عُرِف بإقليم كردستان العراق، بل وفقاً للدعاوى التاريخية التي تشرعن الهيمنة على المناطق المجاورة لهذا الإقليم عسكرياً، وتهجير السكان لاحقاً، في لحظة انكسار عراقي أخرى.

وفي هذا السياق، لم تأتِ تصريحات رئيس إقليم كردستان مسعود برزناني في حضرة كيري، إلا تتويجاً لمرحلة جديدة في الصراعات الداخلية والإقليمية القائمة في الشرق الأوسط، حيث أكّد خلال مقابلة مع كريستيانا أمانبور: “لا يمكننا أن نظلّ رهائن للمجهول .. آن الأوان لكي يحدد الأكراد هويتهم ورسمهم لمستقبلهم”. وأضاف: “العراق يعاني من انهيار واضح والحكومة المركزية فقدت سيطرتها على كل شيء”، مضيفاً: “نشهد عراقا جديداً يختلف تماماً عن العراق الذي عرفناه .. الأحداث الأخيرة أكدت بأنّ الشعب الكردي عليه أن يغتنم الفرصة والآن ويحدد مستقبله .. الأكراد هم من لهم حق تحديد مصيرهم وليس سواهم”.

ويُحمَّل هذا الدفع الانفصالي، على طرفين معاً، حيث أدّت سياسات الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عقود تجاه المكون الكردي، من إهمال واعتداء، وغياب المساواة في التعاطي مع شؤونه، إلى تغذية الطرف الراديكالي الكردي، وقدرته على خلق حاضنة اجتماعية واسعة، تندفع خلف الطروحات التاريخية، التي وظّفها الساسة الأكراد، وخاصة منذ عام 2003، مع سياسة النأي بالذات عن باقي العراق، لصالح تأسيس البنية التحتية لدولنة الإقليم. بعد أن دفعوا نحو فدرلة العراق، والتأصيل لما هو قائم اليوم. أي إنّ الإشكالية هنا هي الفدرالية التي خلقوها أكثر من عملية الانفصال ذاتها.

فانفصال مكون عن دولة، وبشكل نظري، هو إحدى أدوات السياسة الدولية، لمعالجة الأزمات الإثنية بين المكونات المجتمعية، لصالح الطرفين معاً، بحيث تحفظ حقوق الطرفين، وتؤسس لمرحلة بنائية قادرة على الاستمرار خارج الأطر الصراعية. لكن الساسة الأكراد، وقبل ذلك، دفعوا إلى تهيئة العراق لحالة تفتيتية، من خلال الإصرار على الشكل الفدرالي-الهُويّاتي غير المنساق مع التاريخ والثقافة العراقية، وغير مُؤصَّل له مجتمعياً، حيث تمّ فرضه وفق إرادة دولية بدفع كردي، تسمح له مستقبلاً –الآن- باستغلال هذا الشكل الدولتي، ليس في انفصالهم فحسب، بل في تعزيز هذا الانفصال، من خلال دعم فدرلة المكونات الهُويّاتية الأخرى بشكل أكثر تفتيتي للعراق، تشرعن سلوكهم، وتجعل منهم (الأكراد) الطرف الأقوى القادر على فرض المسارات السياسية التي يبغون. وهو ذات المنهج الذي سلكته إسرائيل في سعيها إلى تفتيت محيطها العربي، عرقياً ودينياً، حتى تمتلك القدرة على الاستمرار في قلبه.

الإشكالية الأخرى في الانفصالية الكردية، هي تلك العلاقات الإقليمية الناشئة عنها من جهة، والصراعات المترتبة عليها من جهة أخرى:

إذ استند الأكراد إلى تحالف مع القوى الغربية (الولايات المتحدة بالذات)، عبر تقاطع مصالح، من خلال سعي الولايات المتحدة بدورها إلى إعادة ترسيم الحدود الجيوسياسية في الشرق الأوسط، وليس لهم أن ينفصلوا مستقلين بذواتهم، إلا من خلال التوافقية مع المسارات الأمريكية التي ترى في ذلك انسياقاً مع توجهاتها. وإلى تعاون يعود إلى سبعينيات القرن الماضي مع إسرائيل، استفاد منه أكراد العراق في تعزيز قدراتهم الإدارية الذاتية، تقرباً من الولايات المتحدة، مقابل تسهيلات استخباراتية قدمها الأكراد طيلة العقود الماضية، عن النظام العراقي السابق من جهة، وتعاون استخباراتي واسع ولاحق لاحتلال العراق. كما شملت تلك العلاقات، دعماً إسرائيلياً مالياً واسعاً لشراء العقارات في شمال العراق، بدعم من جلال طالباني ومسعود برزاني.

وجمعوا ذلك مع استنادهم إلى إيران كضامن لمشروعهم، وكأداة إيرانية مؤقتة في مواجهة نظام صدام حسين، ومن ثم في ترسيخ الحالة التفتيتية للعراق، والتي تشرعن لإيران بدورها، عملية هيمنة مُيسَّرة على غالبية المناطق العراقية. وظهر ذلك بحالة التشاورية التي قام بها رئيس وزراء كردستان مع النظام الإيراني، قبيل التوسعية العسكرية في العراق، وقبيل الإعلان عن السعي الانفصالي.

ويُبنى على ذلك، وفي ذات الإشكالية، ما سيترتب على هذه العلاقات الإقليمية (الولايات المتحدة، إسرائيل، إيران)، من أزمات لاحقة، تدفع بالأكراد إلى حالة عدائية مع المحيط العربي من جهة، لصيانة تحالفاتهم الإقليمية، ومنه ضمان أمنهم. وإلى تحولهم إلى أداة بيد القوى الإقليمية تلك، في مساعيها التوسعية. وخاصة أنهم يضيفون إلى كل ذلك، اتساع الإشكالية القائمة مع تركيا، والتي لا يمكن تجاوزها في ظل الدفوعات التاريخية التي يحتج بها الأكراد في سلوكهم، وبالتالي استدراجها إلى داخل الصراعات العسكرية القائمة، وعليه ستتسع الأزمات الإقليمية لتضيف أعباء أخرى على المشرق العربي.

وينبثق عن ذلك، الإشكالية الثالثة للانفصالية الكردية، وهي التوسعية المترتبة عليها. فدولنة الإقليم، قامت على محددات تاريخية وعرقية، تمتد إلى داخل سورية وإيران وتركيا، ولا يمكن التغاضي عن تلك الشرعنة، في ظلّ اعتقاد كردي بتفوق مرحلي يجب توظيفه إلى أقصى حدوده، قبل انقلاب المعادلات الاستراتيجية في المنطقة. إذ تقوم التوسعية الكردية، على حساب انحسار القوى العربية داخل العراق، وفي الإطار القومي كل. وقد بدأت فعلياً، باتجاه السيطرة المباشرة على مدينة كركوك ومحيطها امتداداً إلى داخل محافظة ديالى، باستغلال الصراع المشتعل من جديد داخل العراق، وفقدان السلطة المركزية القدرة الضابطة لها، وهو ما دفع إلى خروجهم عما اتُّفق عليه لحظة فدرلة العراق، ومن ثم توجهها لتوسيع مجال الوصل الجغرافي-التاريخي مع أكراد سورية، بعد الهيمنة العسكرية على معبر اليعربية. هذا النهج يوحي، بتثقيل الدعاوى التاريخية في المستقبل السياسي لـ “دولة كردستان” الموعودة.

ولا يمكن الركون إلى استقلالية الحدث عن محيطه، بل يشكل لحظة افتراق عما يُعرف بسايكس-بيكو، يؤصل لدويلات جديدة ستشهدها المنطقة في العقد القادم، لكنها لن تكون على ذات الاستعداد والقدرة الكردية، بل هي مجرد كيانات مدولنة تتصارع فيما بينها وفيما بين محيطها الإقليمي، مستندة إلى ولاءات خارجية، كل حسب أيديولوجيته، وخاصة أنّ ذات النزعة تبرز واضحة لدى أكراد شرق سورية، فيما تعززت ذات النزعة عند علويي سورية منذ الثورة على نظام الأسد، عدا عن دفع إيران لتأصيلها في جنوب العراق الشيعي.

فالحدث الكردي -إن اكتمل- ليس حدثاً منفصلاً عن محيطه سياسياً وزمانياً، بل هو إحدى نتائج الانفجار المشرقي المتسع نحو أطرافه كلها، ويشكل قراءة مصلحية واعية من قبل الساسة الأكراد للمتغيرات القائمة، تفتقر إليها الأطراف المشتبكة الأخرى في المنطقة، لكنه حدث تصعيدي يزيد من حركية التفتيت المشرقي.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق