المشهد السوري ما بعد درعا

تدخل الثورة السورية مرحلة، تعد الأكثر تأزماً في مسارها طيلة الأعوام السبعة الماضية، وإن كان البعض يميل إلى اعتبار أن الثورة قد تم وأدها، وأن ما تبقى من نشاط يقوده شباب الثورة في إدلب وشمال حلب، هو النشاط الأخير، ضمن فعاليات المجتمع المحلي، قبل أن يتم الإطباق كلياً على هذا النشاط، سواء من قبل النظام نفسه، أو من قبل تركيا وفق تسويات إقليمية.

أصحاب وجهة النظر هذه، يعتقدون أن النظام استعاد غالبية المناطق السورية، وأنه في طريقه لاستعادة ما تبقى، وفق تسويات تشتغل عليها روسيا، وهم بذلك يروجون لفكرة أن النظام سيعيد إطباق حكمه على كامل سورية، مع إعادة كثير من اللاجئين قسراً إليه، ليبدأ حملة انتقامية، في ظل تغاضٍ عربي وإقليمي ودولي. وربما أكثر من تغاضٍ، من خلال تمويل إعادة الإعمار لتثبيت حكم النظام المتزعزع.

ضمن هذه النظرة، يذهب آخرون إلى الاعتقاد أن المطلوب هو بالأساس تخليص النظام من براثن إيران، من خلال ما تم تروجيه من قبل الروس بأنهم يعملون على طرد الإيرانيين وميليشياتهم من سورية.

محللون استراتيجيون روس، وصفوا هذا الأمر بأنه مستحيل، وأن ما جرى هو اتفاق على أن تبقى القوات الإيرانية (بما فيها قوات حزب الله) بعيدة لعشرات الكيلومترات على الحدود فحسب. بل إن ميليشيات حزب الله لم تكتفِ بالصمت وتمرير هذا الاتفاق، بل عادت بعد أيام للتصريح بأن قواتها موجود ومشاركة في درعا، كما تم تصوير مقاتلين من الميليشيات الشيعية وهم يعترضون قافلة المهجرين قسراً من الجنوب.

أي أن الاتفاق كان المطلوب منه، هو الترويج إعلامياً لا أكثر، والإيحاء بأن الولايات المتحد وحلفاءها العرب، قدموا إنجازاً باتجاهين: تخليص سورية من إيران، والضغط على إيران إقليمياً.

غير أن إخراج إيران من سورية هو فعل غير عملي، فإيران قد استثمرت بمليارات الدولارات في عمليات الهيمنة على الاقتصاد السوري، وشراء العقارات والحيازات الزراعية، أو السطو عليها، عدا عن أن حجم الضحايا في صفوف قوات النظام (ربما مئات الآلاف) توكد أن الجيش الحالي، هو خليط من ميليشيات دفعت بها إيران للهيمنة على ما تبقى من جيش النظام، وتوضح الصور التي يتم تسريبها حقيقة ذلك، إلى جانب هيمنتها على الأجهزة الأمنية، عدا عن أنها المسؤولة مباشرة (مع حزب الله)، عن أمن رأس النظام.

هذا في حال تم افتراض أن العلاقة بين الطرفين، هي في هذا الحدود، غير أن المطلع على نظام الأسد، يدرك أن علاقته بإيران منذ عام 1980، تقوم على أسس أيديولوجية، تم تعزيزها بشكل كبير بعد عام 2000، في أبسطها التشارك في العداء للمحيط العربي ضمن نظرية “المقاومة” التي تستتر بالقضية الفلسطينية، والتي لا يمكن للنظام وحواضنه التخلي عنها، حيث أن ذلك يعني فقدانه مبررات وجوده، أو شرعيته الخارجية.

إضافة إلى أن دمشق باتت ثالث أكبر تجمع مرجعي شيعي بعد قم والنجف، من خلال عمليات توطين لعشرات آلاف الشيعة أجانب، وعمليات التشييع التي تنشط بكثافة، والسيطرة على المقامات الدينية، وتدل على ذلك حجم مسيراتهم الدينية المستمرة في شوارع دمشق، التي تتوعد السنة والعرب بمزيد من القتل.

محللون آخرون يرون أن ما جرى، هو عملية محاصصة جغرافية، حيث بات لإيران كلمة السبق في لبنان والبقاع الشرقي والغربي (الحدود المشتركة)، ودمشق، وأنها حافظت على تواصل جغرافي عبر العراق إلى إيران. فيما لروسيا مناطقها على ساحل المتوسط، ولتركيا جزء من الشريط الحدودي.

ومن المتوقع أن المرحلة القادمة في سورية ستشهد نزاعات مسلحة على السيطرة على إدلب من جهة، وعلى المناطق التي تقع شرق الفرات (المناطق الأمريكية)، في حال تخلت الولايات المتحدة عنها، وإلى الآن ما تزال الولايات المتحدة تستخدم هذه المناطق للضغط على كافة الأطراف الإقليمية، للحصول على منافع مالية أو سياسية منهم، مقابل وجودها في هذا المنطقة، ولا يبدو أنها ستخرج منها قريباً، إلا بالصورة التي خرجت منها من العراق، وفق اتفاقيات أمنية تحفظ لها مصالحها.

وربما يقوم تنسيق مشترك بين كافة الأطراف، بأن تتولى تركيا مهمة “تخليص” إدلب ممن تبقى من فصائل عسكرية، ونزع سلاحها، قبل الحديث عن تسويات جغرافية لاحقة. أما الاحتمال الآخر لإدلب، فهو الدفع بها إلى مصير مشابه لما حصل في المناطق الأخرى، لكن الإشكال هنا أنه ما عاد بالإمكان تهجير سكان إدلب إلى منطقة أخرى، وهو ما يحتم إما المواجهة مع النظام أو التسليم له والخضوع لسيطرته، من قبل كثير من النازحين الذين رفضوا هذا الخضوع قبل أيام أو أسابيع.

ويبقى ملف اللاجئين/المهجّرين السوريين، واحداً من الملفات الإقليمية المأزومة، والتي ستشكل عائقاً كبيراً أمام دول الجوار من جهة، وأمام النظام من جهة أخرى، حيث أنه لا يمكن استيعاب هذه الملايين في الداخل، في ظل دمار كبير أو عمليات استيلاء على أملاكهم، كما أن كثيراً منهم ملاحق أمنياً من قبل النظام أو يخشى العودة، في حين أن دول الجوار (العربية تحديداً) باتت تتململ اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً من وجودهم.

هذه المقدمة أو الصورة الحالية للوضع السوري، تؤكد عكس ما تطرحه النظرة السابقة، بأن النظام سيتجه إلى مزيد من الاستقرار، إذ إن مقومات الانفجار ثانية ما تزال حاضرة في كافة المحاور السابقة، وتحديداً من خلال:

  • نظام لا يمتلك أية شرعية حقيقة، سوى شرعية استخدام الإبادة وسياسة الأرض المحروقة، وإن توقفت العمليات العسكرية، فهذا يعني أن النظام مطالب بتوفير شرعية أخرى.
  • الشرعية الأخرى قائمة على الاحتلالين الروسي والإيراني، وإن كان كلا الطرفين مستمران –على الأقل خلال هذه المرحلة- إلا أنهما لا يمنحان شرعية بمعناها العملي للنظام، بل حماية من السقوط.
  • عدا عن أن النظام لن يتقبل الآخر الذي ثار عليه، ضمن مسار مصالحات وطنية، فالسوريون هم أخبر الناس بهذا النظام، والنزعة الانتقامية التي تحركه، بل وتحرك حاضنه الطائفي، لذا من المتوقع أن يكون هناك عمليات انتقام تتناسب طرداً مع الصمت الدولي. وربّما تتعدد أشكالها، حيث لا يشترط أن تكون عمليات اعتقال وتصفية كما كان، بل من خلال عمليات إذلال واسعة للحاضن الثوري (السني تحديداً) كما يراه النظام، أو منع هذا الحاضن من الحصول على أية منافع، وبالطبع لهذا انعكاس في غاية السلبية على محاولات إعادة خلق شرعية للسلطة.
  • عدا عن أن مفهوم المواطنة بحد ذات قد انهار في سورية، وبات الحديث عن مستويات متعددة من المواطنة يعلوها المحتل الروسي والإيراني وميليشياته، ومن ثم حاضن السلطة العلوي، ومن ثم بعض الممولين للنظام والداعمين له من خارج حاضنه الطائفي، ومن ثم عموم المجتمع الذي بات فقيراً للغاية ولا يمكن أن يشكل أي إسناد سياسي، سوى الخضوع للطبقات الثلاث السابقة، وأخيراً سيضيف النظام مرتبة أدنى تشمل المهجرين الذين ستتم إعادتهم قسراً إلى مناطق مدمرة، لن يكون لهم أية حقوق في ظل هذا النظام.
  • يُضاف إلى ذلك، أن الثورة كفكرة ما تزال جذوتها مشتعلة، وإن خبت في كثير من المناطق، لكنها تحتاج إلى مغذيات (متغيرات جديدة)، تعيد لها انطلاقتها، سواء أكانت هذه المتغيرات محلية، نتيجة انهيارات أخرى داخل النظام، أو صدامات بين أطرافه، وسواها. أو متغيرات خارجية سواء أكانت توافقات إقليمية، أو انهيارات في صفوف داعميه (العراق وإيران ولبنان)، وخصوصاً أن إيران مقدمة على إشكال دولي لا يبدو أنها قادرة على مواجهته هذه المرة، عدا عن أن الوعي المجتمعي العراقي (وتحديداً الشيعي)، بدأ ينزاح بعيداً عن إيران ليضرب مصالحها الأكبر في العالم العربي، وإن كان على المدى المتوسط والبعيد.

مخطأ من يعتقد أن الوضع في سورية ذاهب باتجاه استقرار سلطة النظام، واستعادة المكانة التي كان يحظى بها قبل عام 2011، فأمام النظام إشكاليات كبرى (تتجاوز ما تم ذكره بكثير)، وهو عاجز عن مواجهتها، نتيجة طبيعته من جهة، ونتيجة الظرف الذي يمر به من جهة ثانية، ونتيجة الإشكاليات الإقليمية التي ستبقى عبئاً لا قدرة له على مواجهتها بالمطلق، رغم وجود دعم إقليمي ودولي مكثف له.

بالمحصلة، فإن النظام استطاع –من خلال هذا الدعم الخارجي- طرد كثير من السكان، وتدمير غالبية المناطق التي ثارت عليه، والقضاء على الحراك المسلح للثورة، وإن كان هناك تساؤلات كبرى لابد من أن تطرح الآن حول دور الفصائل وارتباطاتها بالنظام، وآليات انسحابها.

هذه التساؤلات وسواها، عليها أن تتم وفق منهج نقد ذاتي حاد للغاية، في إطار المراجعات الثورية، وعدم الركون إلى نظرية المؤامرة ولوم القوى الخارجية فحسب.

د. عبد القادر نعناع

باحث وأكاديمي سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق