اتساع الشرخ الاجتماعي يعصف بالغوطة

أيام قاسية وشديدة مليئة بالدم، وارتفاع كبير غير مسبوق بأعداد الضحايا المدنيين، وانهيار تام بكل مقومات الحياة، تشهدها الغوطة الشرقية، لتتضح الصورة أكثر فأكثر، وتظهر قوة ومتانة العلاقات السياسية وأهميتها في خوض الصراعات العسكرية. فالاتفاقات السياسية التي نفذها فصيل جيش الإسلام منفرداً ولو على اعتبارها خيانة (حسب ناشطين على الأرض) بحق سكان الغوطة عامة، وفصيل فيلق الرحمن وحركة أحرار الشام الإسلامية الذين أظهرا ضعفهما السياسي.

إلا أن هذا الواقع لا يغير من مسلّمة باتت قاعدة إلزامية ومعروفة في هذا النظام العالمي، وهي كي يكون لك حضور دولي وعالمي، يجب أن تمتلك قوة سياسية موازية، أو تفوق القوة العسكرية التي بين يديك. فبعد الاتفاقات التي وقعت مع الأمم المتحدة، وسلم فصيل جيش الإسلام بعض الموقوفين لديه من عناصر داعش والنصرة، بات ذلك يعني سياسياً تنفيذ جيش الإسلام لاتفاقات إخراج العناصر المعتبرة إرهابية، وسحب ذرائع روسيا والنظام بقصف دوما، واعتبارها مدينة لا تحوي إرهابيين، وبذلك لن يتم اقتحامها (يظهر في نفس الوقت إنسانية وهدف روسيا والنظام من حربهما أنها موجهة ضد عناصر راديكالية موصوفة عالمياً).

وهذا بدوره ينقلنا إلى المعنى العسكري الذي يعني توقف القصف والاقتحام الروسي على جزء صغير من الغوطة، وهو منطقة وجود جيش الإسلام (دوما)، بسبب سحب الذرائع الداعية لذلك، وتركيز الاقتحام على الجزء المتبقي من الغوطة، وهو قطاع فيلق الرحمن (القطاع الأوسط)، ولاحقاً قطاع حركة أحرار الشام (حرستا، رغم تاريخها السابق مع النظام، والذي يمكن أن يحل أمرها بشكل أكثر سلاسة من مسألة القطاع الأوسط).

بالتأكيد لن يكون اقتحام مدن الغوطة بالأمر السهل، فالطبيعة العمرانية للغوطة، والبشرية لسكانها، ستعيق التقدم كثيراً، بعد الخبرة التي اكتسبوها في حرب المدن والعصابات، عكس المناطق الزراعية التي تقدم منها بسهولة وسرعة نسبية، وبالتالي ستزداد فرص الصمود القاتل (لأنه يخلف أرواحاً بشرية كبيرة). وستزداد فرص ومؤشرات التدخل الدولي الإنساني على حساب الانهيار الاجتماعي وارتفاع أعداد الضحايا الحاصل.

بالطبع من خلال ما جرى، استطاعت روسيا والنظام التهرب مؤقتاً من شبح التدخل الدولي الإنساني، بسبب تجنيبها بعض المدنيين في دوما عمليات الاقتحام مؤقتاً، بعد تسليمهم، أو خلوها من عناصر التنظيمات الإرهابية، على عكس باقي القطاعات، التي لم تسلم تلك العناصر، على الرغم من توقيعهم لاتفاقات سابقة بذلك.

لكن لا تقف المسؤولية فقط على الفصائل، فقد أظهرت الرسالة الموجهة للأمم المتحدة وقوف روسيا خلف التباطؤ، وتعطيلها لمسعى إخراج العناصر المصنفة إرهابية، وأتى التقسيم الذي نتج عن العملية العسكرية مؤخراً حاجزاً آخر في وجه محاولة إخراج العناصر الإرهابية من كل القطاعات؛ لوجود معبر وحيد يقع بالقطاع الشمالي المفصول نهائياً عن باقي القطاعات.

في هذه الأثناء تواصل روسيا والنظام اقتحام القطاع الأوسط، وتأجيلها اقتحام قطاع حركة أحرار الشام لوقت لاحق، وقطاع دوما لوقت متأخر. أيضاً كل ذلك يجري وسط ارتكاب مجازر ضد الإنسانية، وعلى مرآى من العالم الذي يدعي التحرك ضد روسيا والنظام، لكن بخطوات متباطئة جداً، إلى حين إنهاك كل القوى المنخرطة بالصراع، وعلى رأسهم روسيا التي تظهر كعدوة للإنسانية، وهو أول انتصارات المجتمع الدولي المعنوية (لا يعنيه استمرار نزيف الدماء)، والتي يبدو قبوله بها كانتصار معنوي فقط دون تحرك حاسم ورادع إلى الآن (لتحصيل مكاسب على الأرض).

إذاً، يخوض فصيل فيلق الرحمن معاركه دون غطاء سياسي، وحتى دون رؤية أو هدف عسكري، فالمعارك في علم العسكرتارية تخاض إما هجوماً أو دفاعاً، وهو كما يبدو يخوضها لتأخير الانكسار العسكري، وحصول تغيير، أو تدخل دولي، أو تُخَاض لتحسين شروط التفاوض في حال وجود غطاء سياسي، وهو ما ينتفي مع حالة فيلق الرحْمن، حيث ينظر أهالي الغوطة الشرقية لفعل جيش الإسلام من منظور الخيانة؛ بسبب تاريخه المعروف لديهم: كمحاولاته اجتثاث الفصائل، والتسلط الامني عليهم، وانسحابه من الجبهات، وتفرّده بالحلول باسم الغوطة مع النظام، كما حدث مؤخراً بتسليمه المعتقلين لديه فقط من المصنّفين إرهابيا.

هذا الواقع الذي لم يعد يخفى على أحد، وتمتد شرارته إلى صفحات التواصل الاجتماعي بين الناشطين على ضفاف الغوطة المقسّمة، والتي أصبحت تَسِم عمل جيش الإسلام بالخيانة بشكل علني، مخفية خلفها انقسامات عدة على الصعيد الاجتماعي بين الأجزاء المقسّمة، تصل إلى حدّ العداوة، وتمتدّ هذه التصدعات إلى داخل القطاع الواحد، بين مؤيد ورافض لهذا التفرد، الذي أنتج واقعاً منهاراً اجتماعياً وعسكرياً، والأهم تبرير وشرعنة القصف ضد باقي القطاعات، وهو ما يعتبره النشطاء خيانة.

يظهر الواقع الاجتماعي المتردي تصدعاً كبيراً، وباتت الدعوات الداعية للاستسلام وتسوية أوضاع من يود البقاء وخروج “المسلحين” علنية، وقد شهد القطاع الأوسط بعض المظاهرات الداعية لذلك، قوبلت بقبضة أمنية شديدة من فيلق الرحمن، منعاً لانهيار الصف الداخلي، وسط إشاعات يبثها النظام عن قرب الحسم العسكري. فيما تختلف الأمور في دوما قليلاً، فما تشهده المنطقة هناك هو محاولة استنكار على الصعيد المدني على الأقل ضد أعمال جيش الإسلام، وضد الانسحابات المتكررة، والاقتحام الروسي لباقي القطاعات.

تروج كل القيادات العسكرية و المدنية لهدف الحملة العسكرية من قبل النظام، وهي حسب زعمهم تستهدف تهجير المدنيين و القضاء على فصائلهم العسكرية، و هذا يعني أنه لو منع التهجير وبقيت الفصائل لحصل الانتصار، وهو انتصار شبيه بما روّجته الأنظمة العربية بعد نكسة حزيران/يونيو 1967، والذي انتصرت فيه الأنظمة حسب زعمها؛ لأن هدف الحرب حينها إزاحة أو القضاء على الأنظمة “الثورية” حينها. مع التناسي والتجاهل التام لواقع المجتمعات العربية المتفكك والمتردي بعد حرب 1967.

واليوم يتكرر نفس المنطق في الهجمة على الغوطة، فيما لو تمّ فرض هدنة فذلك في الحقيقة لا يعني انتصار الغوطة، إنما هو تجميل للهزيمة. فواقعها الاجتماعي المتردي، وانهيار مؤسساتها الخدمية والتعليمية والادارية والإغاثية، يعكس حجم الضرر والانفجار (التشظي) القادم، الذي يصعب تحديد مداه ووجهته.

هذا الحال الذي وصلت له الغوطة خصوصاً، وسوريا عموماً، لا يمكن التخلص منه إلا بتدخل دولي يفرض وجه العدالة والدولة السورية القادمة، ليوقف انهيار المجتمع، ويبدأ ببناء الدولة على أساس مدني، باستبعاد المكوّن العسكري والديني والعلوي (العلوي السياسي والعلوي الطائفي)، نهائياً من الصورة. والسماح بتعدد الأحزاب والتمثيل السياسي بعيداً عن السلاح والعسكرة، واعتماد القانون وعلمانية الدولة، بعيداً عن المؤسسات الدينية التي أوغلت بالدم وشرعنته لدى كلا الطرفين (نظام ضد معارضة-معارضة ضد معارضة).

أما سبب استبعاد المكون العلوي سياسياً وطائفياً، فهو مصلحة دولية متوافقة مع المصلحة الوطنية السورية، فاستبعاده طائفياً/دينياً يعني فك الارتباط العقائدي الإيراني-العلوي، وهو مصلحة دولية في محاربة إيران وتمددها الإقليمي، والتي صنعت حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن على أساس ديني/طائفي، وخاصة بعدما تردد عن سبب توجّه حزب الله إلى سوريا على لسان أمينه العام (هدفه نشر التشيع).

أما استبعاد العلوية السياسيّة، فهو بداية الحل نحو بناء سوريا ديمقراطية مدنية دستورية، تعترف بكل مكوناتها الوطنية (كما حال المارونية السياسية بلبنان عند استبعادها)، وهو أيضا سبب مهم في تعزيز إنهاء الطائفية العلوية (العقائدية) بين سوريا وإيران.

وفي النهاية، سيبقى مصير سوريا معلقاً لحين الوصول لقناعة دولية بضرورة الحل وفق تفاهمات ضرورية واستراتيجية؛ لإيقاف الانهيار وشلال الدم الحاصل، وذلك بتدخل دولي مباشر دون استفراد طرف في الحل، أو تجاهل لمطالب السوريين في الحرية والكرامة وإسقاط النظام الاستبدادي.

هيثم البدوي

كاتب سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق