المتغيرات الميدانية في الغوطة الشرقية وسيناريوهات الحل

عَكَست التطورات الأخيرة في الغوطة الشرقية وتسارعها، وجود انقسام وتخبط داخلي واختلاف بالرؤية بين الفصائل، ناتجة بالأساس عن وجود انقسام فصائلي سَابِق (فيلق الرحمن، جيش الإسلام، أحرار الشام)، وأيديولوجي ديني (سلفي، أشعري، صوفي)، ومناطقي (قطاع شمالي، قطاع أوسط، قطاع جنوبي). ففي حين انتهت المساعي الداخلية مؤخراً إلى عقد لقاءات بين قادات الفصائل تحت ضغط هجمة النظام وروسيا؛ بغية وضع رؤية وأهداف لمواجهة التصعيد، مع ضرورة توحيد وتنسيق الجهود العسكرية للرد والصمود العسكري في وجه اختراقات النظام.

إثر ذلك، تم التوصل لبعض التنسيق والتوافق الذي لم يستمر طويلاً، حسبما هو واضح، فقد صدرت عدة بيانات على شكل رسائل موجهة لمجلس الأمن، باستعداد الفصائل لإخراج تنظيم جبهة النصرة من الغوطة، مذيلة بتواقيع كل الفصائل العسكرية وبعض الجهات المدنية. وفي الوقت نفسه وضحت البيانات الاتفاقات السابقة التي أبرمت مع روسيا، والتي قضت بإخراج النصرة وتم تعطيلها من روسيا عبر تملصها من إكمال الاتفاق بإخراج العناصر خارج الغوطة.

الجديد في البيانات، حملها توقيع الفصائل مجتمعة مع الجهات المدنية، مع أن الاتفاقات السابقة كانت منفردة مع روسيا، لكن التوافق لم يستمر طويلا، فقد انفرد جيش الاسلام بإكمال الاتفاق، عبر إخراج بعض عناصر الجبهة وداعش من قطاعه الشمالي، وعبر معبر الوافدين الواقع تحت سيطرته وفي قطاعه الشمالي، وذلك استكمالا للاتفاق بمعزل عن فيلق الرحمن الذي حوصر وعزل بقطاعه الأوسط، دون منفذ أو معبر لتنفيذ الاتفاق، وحتى أنه فصل عن القطاع الشمالي.

في هذه الأثناء خرج قائد فيلق الرحمن عبر رسالة إعلامية مصوّرة، أكد فيها على اختيار طريق المواجهة والصمود في وجه آلة الحرب المجرمة، بينما لم يصدر ذلك من جيش الإسلام الا عبر بيانات سياسية تطرقت للأمر بشكل غير مباشر، على عكس الفيلق الذي وجد نفسه في موقف ضعف بعد حصاره واقتطاع بعض المناطق التي كانت تحت سيطرته.

أضف إلى ذلك، خروج بعض المسيرات المؤيدة، والتي تعد اختراقاً أمنيا وفكرياً خطيراً لم ير مثله في مناطق سيطرة جيش الإسلام، بسبب سطوته الأمنية السابقة، والتخلص من معارضيه ومؤيدي الأسد مبكراً، أو بسبب قوته الأمنية على حساب قوته العسكرية. وهكذا يبدو أن قائد فيلق الرحمن، ومن خلال الرسالة المصورة، اختار الطريق العسكري فقط في مواجهته ضد النظام، ما يعكس ضعفه حاليا لعدم وجود جهات سياسية راعية له، على عكس جيش الإسلام الذي مازال ينتهج المواجهة السياسية، عبر من سماهم الفاعلين السياسيين في بياناته الصادرة، والمعلقة على عملية تسليم عناصر داعش والجبهة للأمم المتحدة، إضافة للمواجهة العسكرية التي تعتمد سياسة الحفاظ على قوته العسكرية والحد من استنزافها، لعلمه كما يبدو للموافقة الدولي على أعمال النظام. فبادر بالانسحاب من المناطق المكشوفة بعد صمود يرفع عنه العتب إلى اسوار البلدات التي يصعب اختراقها من قبل النظام، وإتقان مقاتلي المعارضة لحرب المدن والعصابات.

حقق النظام بعد ذلك هدفه الأول كما يبدو من الحملة التصعيدية، والتي أتت في سياق دولي غير ممانع لها، ومؤطر لها ضمن فترة زمنية محددة كما هو واضح، فقد قسّم الغوطة جغرافيا وعسكريا وسياسيا؛ لإضعافها لاحقا، إلى ثلاثة قطاعات: قطاع ومنطقة جيش الاسلام الجغرافي العسكري الشمالي، وهو بالطبع منطقة نفوذ داعميه السياسيين أيضاً، والذين ما تزال أجنداتهم متوافقة مع سياسة جيش الإسلام.

قطاع ومنطقة فيلق الرحمن الجغرافي العسكري الأوسط، وهو بالطبع منطقة نفوذ داعميه السياسيين أيضا، والذين يبدون عدم اكتراث لمصيره ومصير الغوطة إلى الآن، في ظل التفات كل جهة لمصالح مغايرة للأخرى.

قطاع ومنطقة حركة أحرار الشام، التي عادت مؤخراً للواجهة بعد معركة إدارة المركبات، والتي تضم منطقة حرستا جغرافيا، والمعروف عنها نأيها بنفسها عن الغوطة سابقا؛ بسبب طبيعتها وتركيبتها الفصائلية، فيما يكتنف الغموض داعميها السياسيين، كحال أغلب تشكيلات حركة أحرار الشام، التي أصبحت بعد استشهاد (اغتيال قادتها) مفككة عسكريا وسياسيا وحتى جغرافيا.

إن التقسيم الذي أحدثه النظام، يعود بفائدة له على الصعيد العسكري، تتمثل بنقل المعارك من محيط العاصمة إلى قلب الغوطة، بعد قيام الفصائل بعملية فك الحصار، وعودة الأمور لطبيعتها قبل التقسيم، مما يعني استنزاف الفصائل وإبعاد بندقيتها عن العاصمة، باتجاه قلب الغوطة رسميا.

بعد الفصل الجغرافي التام، سعى النظام لتوسعة الخرق عرضا وعمقا؛ لمنع قطعه أو محاصرته عبر هجمات معاكسة من الفصائل، في ظل اتباع الفصائل تكتيك الإغارة والكر والفر، والتي تهدف لإحداث أكبر ضرر عسكري بخططه، وتعمل على استنزافه عددياً عبر قتل أكبر عدد من مرتزقته، التي يعاني أساسا من قلة عددهم، إضافة الى العمل على انهيار معنويات جنوده.

عبر هذا التكتيك الذي يستخدم في حرب العصابات، والذي أثبت فعاليته في فيتنام ضد القوات الأمريكية الغازية، وحتى ضد الروس في أفغانستان، في هذه الأثناء، ما زال النظام يعمل على جبهتين هجوميتين: إحداهما عسكرية سبق الحديث عنه، والأخرى سياسية عبر محاولاته طرح الهدن والمصالحات؛ لإيهام العالم أولا بإنسانيته، وفصله بين المدنيين والعسكريين، ومحاولة الحد من استهدافهم، وقطع الطريق نحو تدخل دولي إنساني. وثانياً محاولة شق النسق والتكتل والصف الاجتماعي داخل الغوطة بين العسكريين وحاضنتهم الشعبية، وذلك عبر طروحات عديدة مثل الحل السلمي المدني، والذي دعى به إلى تشكيل لجنة مدنية لتحديد مصير الغوطة، الأمر الذي دعى نائب رئيس الحكومة المؤقتة، الأستاذ أكرم طعمة، إلى الخروج عن صمته (عبر تسجيل صوتي)، بعد إدخال اسمه زوراً في هذا السياق، حيث نفى علاقته به، ورفضه تشكيل أي لجنة من هذا الشكل، واتهم أسماء محددة بالعمل على تسويق ذلك؛ بهدف تمزيق الصف المدني والعسكري داخل الغوطة وإثارة الفتن والشائعات.

بالعودة إلى الأمر العسكري، تتوالى الأخبار عن استعداد فصائل الجنوب لعمل عسكري، مؤازرة للغوطة، لكن بات من المعروف أن هكذا فزعات لا تنتج بشكل ارتجالي، إنما عبر توازنات وتفاهمات دولية راهنة، وهو ما يؤكد السقف الزمني المعطى للنظام. وقد بدأ النظام بالفعل توجيه ضربات جوية للجنوب ولإدلب، مما يعني بدء انحسار العمل العسكري ضد الغوطة؛ بسبب عدم استطاعة النظام وروسيا القيام بالتغطية الجوية اللازمة لعمله الميداني (الأرضي) ضد فصائل المعارضة.

وهذا يعيدنا إلى فكرة قصر الفترة الزمنية المعطاة للنظام، والتي اختار تنفيذها في الغوطة لتقسيمها بداية، ثم الانتقال لمرحلة ثانية للقضاء عليها، وما تبقى من الفترة الزمنية المعطاة، سيوزع على الشمال والجنوب.

من الصعب تصور سيناريو المرحلة المقبلة وشكلها للغوطة، خاصة بعد الانهيار الكبير الحاصل بها، فقد باتت معظم مبانيها (أكثر من 70%) خارج الخدمة الإنسانية ولا تصلح للسكن، إضافة لعجز في مؤسساتها الخدمية ومنظمات المجتمع المدني، وانقسام جغرافي سيترك أثراً اجتماعياً يتجلى بتشتيت الأسر بين المناطق المقسمة، وضعف عسكري ناتج عن تفتت القوة، وانهيار اقتصادي بسبب ضياع الأراضي الزراعية (سيطرة واحتلال النظام لها)، وعدم وجود منافذ تجارية مع مناطق العاصمة، إلا في القسم الشمالي الذي يتوقف على رغبة النظام بتفعيله أو اغلاقه.

 ويبدو أن السيناريو الأفضل، هو بقائه على سياسته الماضية تجاهه، والتي تعني إغلاقه مع فتحه قليلا عند الضغط الدولي عليه. ولكن كسيناريو ثانٍ، قد يكون من الممكن فتح معابر لكل قسم أحدثه النظام، وهذا يتوقف على التنازلات التي ستقدمها الفصائل وحاضنتها الشعبية، والتي قد تصل للتخلي عن الثورة نهائياً، وهذا قد يكون سيناريو المرحلة الثانية للغوطة فيما لو أراد النظام اتباع سياسة الحصار والتجويع للحصول على تنازلات في ظل ضعف الموقف العسكري حينها، والضغط الاجتماعي الحاصل داخل الغوطة.

وكسيناريو ثالث، قد يكون الضغط الاجتماعي الحاصل، واحتقان المدنيين ضد الفصائل، قنبلة موقوتة تنفجر بوجه النظام، تظهر من خلال الإصرار على الثورة والعودة للعمل العسكري بشكل مجموعات صغيرة تنهك النظام، وهذا السيناريو يحتاج إلى خطوات تتمثل في: رفع الوعي الثوري والسياسي للحاضنة، والعمل على حقنهم ضد النظام، وهذا سهل بعد هجمة شرسة كان المدنيين أكثر ضحاياها هناك.

سيناريو آخر، متمثل بتدخل دولي شُرِح سابقاً، وأغلب الكتابات تكون مؤيدة لهذا السيناريو، وكسيناريو أخير أرجحه مع أو قبل سيناريو التدخل الدولي في ظل عدم وجود تفاهمات دولية حالية، ستبقى الغوطة أداة ضغط سياسي على شرعية النظام، و ستبقى موجودة على واقعها المقسم، مع تمرير مساعدات إنسانية وإغاثية متقطعة، تظهر اهتمام المجتمع الدولي بها أحيانا، والتزام النظام بتطبيقها، لحين الوصول لتوافق وحل دولي للثورة وللنظام معاً، وأرجحه من ناحية أخرى بسبب الانهاك الاقتصادي الحاصل للنظام وروسيا معا، وبسبب الملف الإنساني الضاغط عليهما.

وبسبب آخر يتمثل في عدم فعالية السياسة الأمريكية السابقة في حل مشاكل المنطقة الإقليمية، ما قد يتسبب في فقدانها لمصالحها وامتيازاتها في المنطقة، وظهور قوى قد تكون غير مرغوب بها، أو معطلة لبعض التفاهمات والتقاسمات الدولية في المنطقة، والتي قد تضعف الأداء الأمريكي في النهاية، وتفقد الثقة به لحل مشاكل المنطقة، أو تخوف حلفائه الإقليميين من عدم اهتمامه بقضايا المنطقة، الأمر الذي قد ينعكس سلباً عليهم، ويتسبب في تغير تحالفات المنطقة، وبالتالي التوازنات والسيطرة الأمريكية، وهو ما لا يصب في مصلحة أمريكا في النهاية.

هيثم البدوي

كاتب سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق