من العاصفة إلى الأمل.. ضد الانهيارات الجاذبة

عصفت قوة الحزم بالمشاريع، وحرّكت رياحها كل المراكب، وأخذت الأصوات ترتفع من الهلع، وصوت وجيب الرعب في قلوبهم. أصابت الضربة قشّتهم المتهالكة في بحرٍ متلاطم حرّكته العاصفة، وحين انتهت المعركة بصيغتها الأولى وانطلقت عملية «إعادة الأمل» زاد ارتباكهم، لأنهم لم يعتادوا على قوةٍ تجمع بين الحزم والرحمة، بين إيلام العدو وإثخان جراحه وإعادة الأمل للمجتمع المجلود من ميليشيات سفّاحة. لقد كانت الدروس المستفادة عربيًا من هذه المعركة كبيرة، وأولها الاهتمام بالموضوع الإقليمي لتحصينه من الامتلاء الأجنبي الكارثي.
لقد شكّلت الأحداث المضطربة طوال السنوات الأربع الماضية واقعًا هشًا في العالم العربي على كل المستويات، وأخطرها الفكري والسياسي والاقتصادي، وعليه فإن هذا الانهيار العربي الكامل جعل القوى الإقليمية في المنطقة تتنافس على محاولة ابتلاعه ضمن خطوطها السياسية، والإمساك بالدول من أجل وضعها ضمن الرهانات السياسية والبرامج المحليّة التركية أو الإيرانية. دول الخليج احتاطت إزاء مشروع «أنابيب السلام» التركي الذي اقترح في عام 1987، والذي يهدف إلى نقل ستة ملايين متر مكعب يوميًا من نهري سيحان وجيحان التركيين عبر أنبوبتين إلى دول الخليج العربي وغيرها. فضّلت الدول الخليجية الاعتماد الذاتي على المياه الجوفية وتحلية مياه البحر، رغم أن السعودية أقرضت تركيا إبّان أزمتها الكبرى في الديون الخارجية عام 1979 بشرطٍ واحد يتعلق بالقضية الفلسطينية!
في الخامس والعشرين من مايو (أيار) 2013، ألقى فؤاد كيمن، مدير مركز إسطنبول للسياسات، محاضرةً في مركز الإمارات للدراسات بأبوظبي بعنوان «توجهات تركيا وإيران في الشرق الأوسط.. سياسات ومصالح». في هذه المحاضرة أشار إلى كتابٍ لبولنت أراس، رئيس مركز الأبحاث الاستراتيجية التابع لوزارة الخارجية، بعنوان «تركيا وإيران.. مواجهة تحدي الربيع العربي»، يبشّر فيه بأن الأحداث لدى العرب ستؤسس لنماذج نموّ على طريقة «النمور الآسيوية» عبر حكامٍ جدد سينتقلون باستراتيجيات حكمٍ مختلفة تتجاوز الشمولية إلى الحرية و«الحكم الجيّد»، ثم استخدم عبارة تشرح النظرة المركزية التركية للشرق الأوسط والنظرة المنفصلة، حيث وصف الربيع العربي بأنه «الضربة للوضع القائم في الشرق الأوسط».
من اللافت إشارة الكاتب أراس إلى أن «الوضع في وسطنا يعكس كل الأسباب المحددة وراء تشبث إيران المرن بالوضع القائم المنهار». مثّل الانهيار العربي الكارثي الواضح في شمال أفريقيا وفي اليمن ومصر آنذاك وسوريا مناخًا مغريًا للحقيبة الإيرانية أن تتجه نحو الاستثمار في هذا الانهيار الذي جاء على المقاس المطلوب، وذلك من أجل تعزيز مناطق النفوذ في هذه الدول الفاشلة المنهارة التعيسة، والبدء بتحقيق أهداف الثورة المرسومة أصلاً عبر التصدير من جهة، وعبر محاصرة دول الخليج بأكبر قدر ممكن، مستثمرةً آنذاك نفوذها في أفريقيا والسودان الذي وجّه ضربةً كبرى لإيران حين أعلن عن إغلاق مكاتب إيران في الدولة بعد بدء «عاصفة الحزم».
كل الأوضاع المنهارة كانت ملائمةً لأن تحاصر الدول المعتدلة في المنطقة وبخاصةٍ الأردن ودول الخليج، وذلك لإتمام ولو بعض أهداف الربيع العربي الذي أورث تركةً منهارةً مترهلة، دفعت فيها الجماعات المدعومة من إيران أثمانًا باهظةً، ذلك أنها حاولت تثبيت الوهن والانهيار وحراسة الوضع القائم بغية فتح مساراتٍ سياسية أخرى بشكلٍ مستمر ومستديم. غير أن الذي جاءت به «عاصفة الحزم» كان مدوّيًا وقويًا، لأنها أعادت رسم الخرائط الاستراتيجية وقلبت الطاولة على اللاعبين بالظلام وحرست المشروع العربي من التمدد الإقليمي، كما أحيت النزعة الاستقلالية، ووضعت الأمن القومي للدول العربية والخليجية على رأس الأولويات بعد سنوات من الاضطراب والتثوير نشبت على أثرها سوق بيع العروش، والسمسرة في الدول، ونهب الثروات باسم «الثورات».
أتت «عاصفة الحزم» لتثبيت الاستقرار في المنطقة، ونزع الصورة التي تروّج في الإعلام المعادي. صورة تبث عبر أسئلةٍ تتعلق بقدرات الخليج العسكرية، أو إمكانات استقلال قراره السيادي، أو عن صعوبة التحالف بين دول المجلس بسبب النبرات الخلافية التي تطفو على السطح في بعض الأوقات. كما أنهت «عاصفة الحزم» حالات التآمر بغية المد الطائفي، وهددت نسخ الخطاب الإرهابي، وعوامل الافتراق المجتمعي، وكان التوحّد الأصعب الذي شرقت به حلوق وبلاعيم المتطرفين والمقبوحين هو الدخول المصري في التحالف القوي والمشاركة الفاعلة والنوعية، هذا فضلا عن الدعم الإسلامي والعربي للمعركة العادلة والأخلاقية والتصحيحية. إنه واقع جديد يتشكّل لتثبيت عرى الاستقرار ونزع الخيوط المنسوجة في اليمن جنوبًا وفي الشام شمالاً من أجل حصار «الأعداء» الخليجيين الذين يشكّلون التهديد «الحقيقي» لإيران كما يعبّرون.
أصوات عديدة تزعق من دون كللٍ أو ملل، تخفف عن نفسها عبر الإعلام تجاه هذا الجهد الدولي في تحالف «عاصفة الحزم»، بالطبع ليس من المهم تناولها لأنها من الأطراف المهزومة والمضروبة في اليمن، لكن الأهم التركيز على كون هذه العاصفة هي للدفاع عن استقرار اليمن والدول الخليجية من جهة، وترسيخ «العروبة» وتثبيتها بوجه المشروع الأجنبي الإيراني الوافد من جهة أخرى، وإلا فما الصلة أساسًا بين اليمن وإيران، بين مأرز العرب ومنبعهم وبين مروحة إيران التي تهب دومًا بالسامّ من الرياح.
أهداف الحزم لخّصها ملك الحزم سلمان بهذه الجمل: «ليعد من تمرد على الشرعية لصوت العقل، والكف عن الاستقواء بالقوى الخارجية والعبث بأمن الشعب اليمني العزيز، والتوقف عن الترويج للطائفية وزرع بذور الإرهاب، وسوف تستمر عملية عاصفة الحزم حتى تتحقق هذه الأهداف».
أهداف صعبة وقاسية على الأصوات العابرة في الفضاء العابر، تلك القيادات التي ليست لديها القدرة أو الطاقة أو الاستطاعة على الصمت من صعدة إلى الضاحية. إنها مشاريع العرب للعرب، بعيدًا عن القوى القريبة، تلك المتهافتة بحقائبها مع كل خسفٍ عربي أو انهيار.

فهد سليمان الشقيران

نقلا عن الشرق الأوسط

 

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق