قرار رسوم الأراضي انتصار متأخر لقوى السوق على المحسوبية

لم تكتف السعودية بنجاح سياساتها الخارجية، خصوصا بعد الإقدام على عاصفة الحزم في اليمن عبر تحالفات معقدة، لكنها رأت أن نجاح السياسة الخارجية مرتبط بنجاح التغييرات الداخلية، بدأت بصدور قرار تحرير السوق الداخلي ونقله من سوق محلي إلى سوق عالمي أي بفتح الاستثمار المباشر في السعودية دون وكيل التي تستفيد منه الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تدار من قبل عائلات وتحتاج إلى الاستثمار مباشرة دون مقاسمة أرباح مع الوكيل، مما يتطلب اتخاذ قرارات تعزز من هذا القرار، كان أهمها في القطاع العقاري بعدما حرم الاحتكار والجشع العقاري من تملك بيوت تحمي العائلات.

توماس فريدمان كتب في نيويورك تايمز رسالة من السعودية، نقل مشاهداته للتغيرات في المملكة، قائلا هناك قيادة جديدة ترعى التغيير، كان قرار مجلس الوزراء برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بفرض رسوم الأراضي البيضاء لتصحيح مسار سوق العقار الذي غلبت عليه في الفترة الماضية غلبة السيولة المضاربية التي ساهمت في رفع أسعار الأراضي إلى أربعة أضعاف في عقد واحد من الزمن خصوصا الأراضي في ضواحي المدن ووصلت مداها قبل نهاية عام 2014.

القرار يهدف إلى فك احتكار الأراضي غير المستغلة الواقعة داخل النطاق العمراني التي تقدرها بعض الجهات بنحو 50 في المائة في الرياض، و60 في المائة في المنطقة الشرقية، و65 في المائة في المنطقة الغربية خصوصا في جدة ومكة المكرمة، و50-60 في المنطقة الجنوبية (جريدة الشرق الأوسط 24/11/2015). تعيد الأراضي المجمدة إلى السوق من جديد التي كانت من معوقات قطاع الإسكان في الفترة الماضية، سيدفع ميزان العرض إلى تحقيق فائض كبير، مما ينعكس إيجابا على الأسعار خصوصا في ضواحي المدن التي ارتفعت أربعة أضعاف خلال عقد واحد نتيجة المضاربة.

قطاع الإسكان قطاع تنموي حساس، إذ أن توفير السكن من أولويات المواطنين الذين يعدون ملف الإسكان من أهم الملفات التي تواجههم في الحياة بل في كل دول العالم، لذلك سرعت الدولة في استصدار قرار رسوم الأراضي البيضاء التي تقدر بمائتي مليار ريال سنويا تصرف على مشروعات الإسكان وإيصال المرافق العامة إليه خصوصا في ظل انخفاض أسعار النفط ويتوقع حدوث عجز في الموازنة بنحو 400 مليار ريال مما يمكن قطاع الإسكان الإنفاق الذاتي على البنية التحتية من الرسوم المفروضة على الأراضي.

فرض الرسوم كان حدثا غير اعتيادي على مسامع القطاع العقاري الذي وصل إلى مستويات جنونية من التخبط والجشع في الفترة الماضية، وهي فرصة أن يحول استثماراته من المضاربة في سوق العقار إلى الاستثمار في التطوير العقاري، خصوصا بعد تسيل قيمة الأراضي المجمدة التي تقدر نحو 10000 مليار ريال، تكون بذلك قد تغلبت الدولة على أزمة توفير التمويل، وقد يفكر أصحاب الأراضي الدخول كشركاء مع شركات التطوير العقاري للتغلب على تسيل أراضيهم بأسعار أقل نتيجة حدوث تضخم في حجم العرض بديلا عن البحث عن قنوات استثمارية بديلة.

 خصوصا وأن سوق الأسهم لم تعد كما كانت من قبل جاذبة، بعدما فقد أربعة آلاف نقطة خلال أقل من 24 شهرا، وكان يهرب كثير من المستثمرين، وتجميد استثماراتهم في الأراضي كمخزن قيمة الغير قابلة للانخفاض مثل أسواق الأسهم، حيث كان قطاع الأراضي يشهد عمليات مضاربة مرتفعة وتدوير عالي فيما بينهم لرفع أسعار الأراضي، تسببت بشكل ملحوظ في تضخيم الأسعار، التي أحدثت تشوها في سوق العقاري، وأعاق حرية هذا السوق، وتوفير المساكن، نتيجة ارتفاع أسعار الأراضي المبالغ فيه، خصوصا الأراضي الموجودة في الضواحي وهي أراضي أغلبها سكنية.

 بل حتى أسواق الأسهم ستتجه نحو الاستقرار بعدما كانت السيولة النقدية الاستثمارية تخرج من سوق الأسهم وتتجه نحو السوق العقاري، والعكس مما يربك سوق الأسهم، بل إن أول ردة فعل على قرار فرض رسوم على الأراضي البيضاء يتوقع أن تتجه نحو 30 مليار ريال خلال الأشهر الثلاثة المقبلة للمضاربة في سوق الأسهم المحلية الذي يبلغ نحو 1.5 تريليون ريال (400 مليار دولار) في 24/11/2015 بسيولة يومية تقترب من 5 مليارات ريال 1.3 مليار دولار، يتوقع أن ترتفع إلى 7 مليارات ريال 1.8 مليار دولار كمتوسط تداولات يومي خلال الفترة المقبلة، بعد توقع أن 100 مليار ريال 26.6 مليار دولار ستهجر الأراضي بعد فرض الرسوم.

وستنخفض أسعار الشقق والفلل أيضا وسيكون ذا تأثير محدود على أسعار الإيجار في الوقت الحاضر إلى أن ترتفع نسبة العرض في الشقق والفلل بعد الطفرة السكنية المتوقع حدوثها بعد قرار فرض الرسوم، والتي وقفت عائقا أمام تنشيط هذا القطاع خلال الفترة الماضية، ولم تفلح كل القرارات التي اتخذتها الدولة لتنشيط هذا القطاع.

الدولة اتخذت القرار ولن تسمح بالتفاف أصحاب الأراضي على القرار بتجزئة الأراضي الكبيرة البيضاء، كما لن تسمح من انتقاص قيمة الأراضي بهدف خفض نسبة الرسوم المدفوعة 2.5 في المائة، لأن الدولة ستضع مثمنين عقاريين لتثمين الأراضي، وهو الأمر الذي سيكفل تحديد الأسعار الحقيقية للأراضي، ما يعني أن القيادة الجديدة ستقضي على زمن الفوضى الذي كانت فئة جشعة تستثمره لصالحها وحرمت قطاعات كبيرة من السكان من حقهم الطبيعي في الحصول على سكن من خلال سوق عقارية حرة.

هناك توقعات بارتفاع معروض الأراضي في سوق العقارات السعودية بنسبة 100في المائة، أي أن فرض الرسوم تعيد السوق العقاري إلى مساره الطبيعي، بعدما استطاعت القيادة الجديدة من إعادة تشكيل دور الدولة، التي أدركت أن النجاح السياسي يعتمد على أداء الاقتصاد، الذي يعتمد بالقدر نفسه إلى أي مدى تقوم القيادة الجديدة بتقديم الخدمات بشكل جيد التي يتوقعها سكان المملكة، خصوصا في مثل تلك الخدمة التي تمثل نسبة منخفضة من الناتج المحلي، وفشلت العديد من التجارب خلال الفترة الأخيرة، بينما القيادة الجديدة أرادت بتلك الخطوات أن تثبت حجم ودور الدولة.

وعلى الدولة أن تضمن حقوق جميع الأطراف، شركات التطوير العقاري، ومشتري الوحدات السكنية، ولن يكفي حصول الشركة فقط على التصريح، بل لابد من ربط المبالغ المستلمة من المشترين المرتبط بمشروع التطوير العقاري، وعدم السماح للشركة بصرف تلك المبالغ المستلمة من المشترين على مشاريع أخرى، خصوصا وأن هناك مشاريع تطوير عقارية استلمت من المشترين وهي معطلة سنوات عديدة، وتستثمر تلك الأموال في مشاريع أخرى، ويكتفي المشترون بالاعتماد على القيمة السوقية التي ترتفع مع مرور الزمن، خصوصا إذا كان المشروع سياحي أو استثماري ترتفع قيمته.

ويجب تشجيع مشاريع التطوير العقاري الاستراتيجية التي تستهدف تطوير أفكار مستدامة، مثل بناء مساكن تنتج الطاقة بنفسها عبر شراكات مثل المشروع المتوقع في دخول خمس شركات ألمانية جديدة إلى السوق السعودية، بعضها يعمل في مجال الطاقة المتجددة، للتغلب على مشكلة المملكة في هدر الطاقة، خاصة ما تستهلكه أجهزة التكييف في المنازل، حيث ستعمل هذه المنازل الجديدة على توفير الطاقة المستهلكة.

انخفاض الأسعار وتوفر المعروض من الأراضي ليس وحده الحل السحري الذي يحقق الإسكان لكافة شرائح المجتمع المتنوعة، لكن يتطلب ذلك تقديم منتجات عديدة، وخفض تكاليف العناصر الأخرى، وتغيير كثير من القناعات عبر الوعي المجتمعي، وتسهيل كثير من الأدوار التي تحقق تلك الغاية المهمة، خصوصا وأن المملكة مقدمة على إنشاء شبكة من المواصلات المتعددة داخل المدن، مما يسهل التركيز على إنشاء مدن سكنية أفقية ورأسية في ضواحي المدن، التي ستقضي على أزمة السكن في وقت زمني قصير، خصوصا إذا ما تضافرت الحلول والجهود.

د.عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق