قراءة في كارثة تدافع منى

كثير من الدول والشعوب لا تعلم عن حجم التنوع والتعدد في التركيبة السكانية من طوائف ومذاهب داخل السعودية، لكن كانت رؤية القائد المؤسس بعدم التدخل في عقائد الناس ومذاهبهم، خصوصا إذا لم يحدثوا مظاهر تهدد السلم الاجتماعي، وأكد ذلك الملك عبد العزيز بقوله (فإننا لسنا عنصريين، ولا دعاة التفريق والتمييز بين الناس، بسبب أنسابهم، وعقائدهم)، وفي موقف آخر قال (لا يسأل أحد عن مذهبه أو عقيدته، ولكن لا يصح أن يتظاهر أحد بما يخالف إجماع المسلمين، أن يثير الفتنة).

ما يؤكد على مواقفه المدنية التي خطها لدولته الثالثة الجديدة في التشديد على التفريق بين موقف السياسي، وموقف الفقيه، وكان يرفض الخلط بينهما، أي أنه كان يرفض تطييف السياسة، وفي نفس الوقت تسييس الدين، ما يسمى اليوم بتيارات الإسلام السياسي، والتي خرجت من تحت عباءتها، جماعات العنف كالقاعدة وداعش وغيرهما.

حافظ الملك عبد العزيز ومن بعده أبناؤه على التنوع الكبير في السعودية، وكان يرفض، أي احتكاك بين السنة والشيعة، مثلما يدور في أروقة السياسة العالمية في التفريق بين أغلبية سنية وأقلية شيعية في دول عدة كالعراق وسوريا ولبنان وغيرها من دول العالمين العربي والإسلامي.

بينما قادة السعودية، لم يشيروا إلى مثل تلك التقسيمات السياسية، بل ساروا على المنهج الديني، الذي يرفض مثل تلك التقسيمات، التي تؤمن بالغلبة للأكثرية على الأقلية، بينما الرسول صلى الله عليه وسلم ساوى بين الأكثرية المؤمنة في المدينة والأقلية اليهودية، بوصفهم جميعا أمة واحدة، لذلك رفض الملك عبد العزيز أن يسمح بنشر رسالة من مشايخ فيها رد على الشيعة، إلا بعد تعديلها، بقلمه، قبل نشرها، وقال لهم قوله المشهور (إنكم أصحاب دين، ولستم أصحاب سياسة).

هذا ما جعل السعودية قادرة على إدارة دفة الحج بكافة طوائفه ومذاهبه، ورعايته مثل رعاية قريش للحج والحجاج في الجاهلية، وكانوا يعتبرونه شرفا لا يوازيه أي شرف، ولا يقبلون بأن ينازعهم فيه أحد، ويبذلون في سبيل ذلك، كل ما يملكونه من قدرات ومقومات.

هذه مقدمة كانت ضرورية للدخول إلى مقالي، وقد كنت ضيفا على إحدى القنوات الفضائية يوم التروية في منى، أي قبل الوقوف بعرفة بيوم، وسألني المذيع عن توقعي عن سير حج هذا العام، فكانت إجابتي بأن حج هذا العام يواجهه ثلاثة تحديات، بجانب الحرارة الشديدة، وتحدي صحي في محاصرة انتشار وباء كرونا، لكن كان أولها وأهمها يأتي حج هذا العام في ظل سير عمليات عاصفة الحزم في اليمن والتي حققت نجاحات كبيرة، وهي تهدد بسقوط أمال المشروع الفارسي، في جنوب شبه الجزيرة العربية على يد وكلائهم الحوثيين، وهو حلم تاريخي لم يتحقق، بينما الحشد الشعبي الموالي لإيران في العراق، فشل في استرداد أكبر مصفاة نفطية في البلاد بعد 15 شهرا من المعارك مع تنظيم الدولة.

لن تفرط في بذل أي جهد في إفشال موسم حج هذا العام، بأي وسيلة ممكنة، والبحث عن نقاط ضعف تستهدفها، كما هي موجودة في أي مشروع، وفي أي عمل، دون أن تكشف أدواته، حتى لا تتمكن السلطات السعودية في كشفه مثلما كشفت من قام بحادثة المعيصم عام 1490/1990، الذي استخدم غاز سام راح ضحيته 1426، انتقاما لتنفيذ حكم الإعدام فيمن قاموا بتنفيذ انفجارين قبله بعام، الأول في أحد الطرق المؤدية للحرم والآخر فوق الجسر المجاور للحرم المكي ولم ينتج عنه سوى وفاة حاج واحد.

15 حادثا بارزا شهدتهم مواسم الحج على مدار 50 عاما الماضية، من بينها 8 حوادث بسبب التدافع، لكن تدافع حج هذا العام، أتت بعد معلومات مسربة من اجتماع خامنئي بأربعة من قادته، لدراسة كيفية إحراج السعودية في حج هذا العام، ردا على عاصفة الحزم في اليمن، خصوصا بعدما نجحت السعودية في احتواء حادثة سقوط الرافعة قبل حج هذا العام نتيجة رياح شديدة، وزيارة الملك سلمان للحاجة الإيرانية الذي أعطى انطباعا للشعب الإيراني وللعالم، بأن حكومة السعودية لا تفرق بين الحجاج، ولكن دون أن يترك أثرا يقود إلى تحميل إيران المسؤولية الكاملة يحرجها هي الأخرى أمام المجتمع الدولي، وأن يكون من ضمن القتلى حجاج إيرانيون، من أجل الضغط على الحكومة السعودية وكأنه حادث مدبر من قبل داعش ضد الشيعة.

وأيضا من المعلومات المسربة فإن اندفاع حملات حجاج ضخمة للإيرانيين، عبر طريق سوق العرب هي السبب في الحادث، وأنها كانت وراء التزاحم الشديد، وتفيد المعلومات المسربة، بأن الحجاج الإيرانيين رفضوا العودة، لأنهم كانوا معاكسين الطريق، وهو يتضح من فيديو يكرر فيه ضابط في مكبرات الصوت، قائلا للحجاج الإيرانيين وغيرهم (أيها الحجاج، ما في شخص يدفع الثاني، وما ترجعوا من نفس الطريق التي جيتوا منها، غادروا من الجهة الثانية).

في ظل عمق المأساة التي تعيشها إيران، وتريد أن تستهدف تحويل الرأي العام، مستغلة الاتهامات الشديدة التي وجهتها إيران للسعودية بالمسؤولية عن الحادث، وعدم الكفاءة في إدارة الحج.

ولكن تعاملت السعودية عبر ناطقها الرسمي اللواء منصور التركي الذي قال (بأن أساب ارتفاع الكثافة في هذا الشارع، التي أدت إلى وقوع هذا الحدث، لم تحدد حتى الآن، حيث لا بد من إجراء تحقيق علمي ميداني شامل، حتى يمكن الوقوف على هذه الأسباب).

ما يعني أن السعودية لديها خطة في إدارة الحشود، وهي تفرق بين إدارة شوارع ترتفع فيها الكثافة، وبين إدارة شوارع لا ترتفع فيها الكثافة، أي أن الاستعدادات قائمة ومدركة لتك الاختلافات، وهي قد تمثل نقطة ضعف، قد تكون تم استغلالها في توجيه مثل تلك الحشود من قبل استخبارات دول، إلى شوارع معروفة، أنها شوارع لا ترتفع فيها الكثافة، والتي تتجه عادة نحو استراتيجية عرقلة الحشد، عن طريق زيادة العدد من أجل تحويل الحشد إلى موج، الذي يحدث ذعرا، ثم  يقود إلى انهيار التنسيق الذي تقوم به السلطات الأمنية، ومن ثم حدوث كارثة، ولكن دون أن تترك أي أثر كتفجير، أو غير ذلك، التي حدثت في الأحداث السابقة، ويبدو الحادث وكأنه حدث طبيعي، تتحمل مسؤوليته الحكومة السعودية، التي أدت إلى وفاة 717 حاجا، وإصابة المئات، في أسوأ كارثة يشهدها موسم الحج منذ خمسة وعشرين عاما.

وليس لدى إيران مانع بأن تتاجر بدماء شهداء التدافع، لكن وجه الملك سلمان منسوبي القوات العسكرية، إلى أن حادث منى لا يقلل من أعمالكم الجليلة، وقال لهم أنتم لخدمة ضيوف الرحمن والدفاع عن ديننا وبلدنا، بل أكد الملك سلمان بأن السعودية حريصة على لم الشمل العربي والإسلامي من عبث الأيدي الخفية، وهي رسالة واضحة لضيوف الدول الإسلامية، الذين حضروا الاجتماع السنوي، بأن ما حدث هو وراءه أيدي خفية، فيما أكد أرودوغان أن ليس لأحد الحق في انتقاد إجراءات الحج، وقال أنا متأكد من أن السعودية تقوم بواجباتها على أكمل وجه، وقال أيضا أنا أعرف السعودية عن قرب، وهي تهتم بمراسم الحج بدقة عالية.

هذه هي القيادة المدركة القادرة على إدارة الأزمات، مهما كان نوعها، وحجمها، حتى تمنع انهيار المعنويات، ولن تعطي سمعا لأي متاجرة حزبية وطائفية بدماء شهداء التدافع، التي تود أن يقع المزيد من الكوارث.

بل اتجهت القيادة إلى رفع معنويات المسؤولين، لرفع جاهزية الاستعداد لديهم، لمنع حدوث، أي حوادث متوقعة، أو يمكن أن تقع، ولن تستسلم لأي لعبة سياسية تتاجر بدماء الحجاج، خصوصا وأن 9 سنوات نتيجة جهودهم ومنى خالية من حوادث التدافع، وهو تاريخ كاف أن يشهد لهم بالجهود الجبارة التي تبذلها السلطات السعودية.

خصوصا لمن يتابع جهود الحكومة السعودية في إنجاح مواسم الحج، والتي شملت جهود التحسين، يعترف بها كل الحجاج، وكل المسؤولين في الدول العربية والإسلامية، بأن السعودية اتخذت كافة احتياطيات السلامة أثناء رمي الجمرات، من توسيع المكان، وبناء جسر من ثلاثة طوابق حوله، وزيادة عدد نقاط دخول الموقع والخروج منه، ب 33 مدخلا ومخرجا للجمرات ب6 اتجاهات.

وبالنسبة لإدارة الحشود، فإن السلطات الأمنية نشرت أكثر من 100 ألف من أفراد الشرطة، لتفريق التجمعات، قبل أن تصل إلى مستويات كثافة خطيرة، وتم نشر الآلاف من كاميرات الفيديو، وتقوم تلك الفرق عبر مشاهدة الكاميرات، بتوجيه وتفكيك الحشود، وتفويج الحجيج إلى طرق بديلة.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق