حرب غزة والهروب الإيراني إلى الإمام: حرب التصريحات

يستند النظام الإيراني في حروبه المتسعة في العالم العربي، على أداة القوة الناعمة، التي يتمثلها كم كبير من الإعلام الملالي الموجه، سواء اتخذ شكلاً دينياً أو براغماتياً أو رسمياً، تصب كل مخرجاته في حاضن اجتماعي عربي ما زال يرى في إيران قوة “تحرير”، وقائداً لما يسمى بـ “محور الممانعة والمقاومة”، في عملية غسيل أدمغة وأدلجة لشريحة عربية تتصف بالسمة العلمانية، في عملية تناقض هوياتي ومبدأي لدى هذا الجمهور.

لا ترى هذه الشريحة أي حرج في إبادة ملايين المواطنين العرب في عدة دول، في سبيل اتساع المشروع الاحتلالي – الاستيطاني الإيراني، تحت حجج تمت سياقتها ذاتها من قبل التيار القومي العربي قبل أن تندثر معظم رموزه، خاصة بعد فشلها في لعب دور قيادي مؤثر فترة الثورات العربية، فشماعة فلسطين كانت مبرراً لطغيان أنظمة عربية لعدة عقود، بقيادة نخب ما انفكت تدافع عن استبدادية أطاحت بمقومات الدولة العربية، ذات النخب استقت القضية الفلسطينية وأسقطتها على النظام الإيراني، لتبرير سلوكه العسكري الممتد من العراق إلى اليمن، في عملية تغييب أخرى للعقل العربي، تحفظ لهذه النخب مصالحها بعد أن أسقطتها الثورات العربية.

وفي سياق الحرب الإقليمية المتسعة، تشتعل غزة بعدوان إسرائيلي آخر، يحصد أبناءها ويدمر ما بقي من بنية تحتية، ويفتح المجال لانخراط إسرائيلي واسع في هذه الحرب التي باتت بإدارة إيرانية، ومكاسب إقليمية، تسعى إسرائيل إلى استحصال نصيب منها، على غرار الدفع الإيراني لحزب الله عام 2006 لاستدراج عدوان على لبنان، يصب في مصلحة إيران وإسرائيل معاً.

من مصلحة إيران، أن تنخرط إسرائيل في حروب المنطقة، حتى تكون مبرراً لتوسيع العمليات الإيرانية في سورية ولبنان تحديداً، ولإحداث انشغال إعلامي من جهة أخرى، وإعادة لملمة الحاضن العربي لمشروعها، ومنحه مجالات جديدة للمناورة، في المقابل، فإن من مصلحة إسرائيل إشعال حرب تبدأ في غزة، ولا تنتهي إلا بتوسيع المشروع الصهيوني المتجمد منذ سنوات.

وتلعب الأداة الإعلامية الإيرانية، دوراً في هذه الحرب، عبر محاولات إظهار الطرف المضاد لها عربياً (السعودية والإمارات)، كعدو يناصر إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، فيما هي تسعى لنصرة حركة حماس في مواجهة العدوان الإسرائيلي، وهو ما تسعى النخب المذكورة آنفاً إلى ترويجه في بيئاتها التي ما تزال مغيبة بخطاب أيديولوجي متناقض علماني من جهة، وديني سني-شيعي من جهة أخرى.

من ذلك ما أوردته وكالة أنباء فارس، في نسختها الإلكترونية الفارسية، من علم دولة الإمارات العربية المتحدة بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة قبيل وقوعه، عبر تنسيق مع إسرائيل من خلال وزراء الخارجية في باريس الشهر الفائت.

لا يحتاج التنبؤ بالسلوك الإسرائيلي في المنطقة تنسيقاً بين أية جهة، فالقراءات السياسية كانت تدل كافة على قرب انخراط إسرائيل في عمليات عسكرية تبدأ من غزة، وباتت واضحة لكافة المتابعين منذ اختطاف المستوطنين الثلاثة وتصفيتهم.

عملية الاتهام هذه، هي عملية هروب إلى الأمام، عبر استباق الحدث إعلامياً، وتغطية الدور الإيراني، من خلال خلق مزيد من الانقسامات العربية-العربية التي تبرر لإيران سلوكها، وتسمح لها بتوسيع عملياتها في العراق وسورية، خاصة بعد اشتداد عدة جبهات واستعصائها عليها في كلا الدولتين، تحت ستار فلسطين والمقاومة، دون أن تتجه تلك الآلة العسكرية الإيرانية التي أوغلت في دماء العرب نحو فلسطين.

إن موضوع الاطلاع على النوايا الإسرائيلية المبيتة، لا يمكن أن يكون إلا فعلاً يدار من قبل طهران ذاتها، فهي من أشعلت المنطقة بحروبها، وساهمت في تدمير دولها، وقدمت كافة المبررات لتوسيع العدوان الإسرائيلي سواء في لبنان أو في غزة، عبر ارتباط مصلحي يتجاوز موضوع مفاوضات الملف النووي، إلى إعادة رسم الجغرافيا السياسية للمنطقة، بالتشارك والتوافق مع الكيان الإسرائيلي.

إن الاحتجاج بدعم حركة حماس ببضعة صواريخ، جزء منها لا علاقة لإيران به أصلاً، هو ذاته مبرر إدانة لإيران بالمساهمة في تدمير غزة وقتل سكانها، عبر تزويدها بكم محدود من الأسلحة غير قادر على حمياتها فعلياً، فيما تشرعن إيران بذلك رداً إسرائيلياً، في حين أنها أثبتت قدرتها العسكرية الكبيرة في احتلال عدة دول عربية، دون أن توظفها فعلياً وبشكل حقيقي لنصرة القضية الفلسطينية، وخاصة أن حرسها الثوري يقبع على حدود فلسطين المحتلة من ناحية سورية ولبنان، وتقاتل ميليشيات حزب الله إلى جانب نظام الأسد في عملية إبادة الشعب السوري، بعيداً عن “العدو” الإسرائيلي، بل لطالما تعرض حليفها الأسد لضربات إسرائيلية جوية، دون أن تقدم على محاولة صدها على الأقل، فيما سحبت منذ عام 2006 عناصر حزب الله من جنوب لبنان، وفق للقرار الدولي 1701، إلى شمال نهر الليطاني بما يتفق مع المطالب الإسرائيلية، وتحويل سلاحه إلى أداة قمع سياسي للبنانيين.

إن محاولات تحميل المسؤولية إلى أطراف عربية، لا يمكن أن يتم إلا في حال وجود قوات عسكرية لهذه الأطراف على أرض المعركة، أو على الأقل حلفاء عسكريين، وهو ما يتوفر لإيران عبر إسناد جملة من العمليات القذرة إلى عدة حلفاء في استعراض عسكري سيدفع المنطقة إلى مزيد من الحروب، بل هو يستدعي أطرافاً عربية وإقليمية للانخراط فيها، في ظل اعتقاد إيراني-إسرائيلي بالقدرة على التفوق العسكري عبر توسيع أطر المواجهة.

ما تدركه إيران، أنه يتم استنزافها عسكرياً عبر تلك الحروب، ولا يمكن أن يتم تدارك هذا الاستنزاف، إلا باستدراج الجميع وإشراكهم فيها، واستنزاف كل القوى الأخرى، للحفاظ على توازن عسكري “توازن الاستنزاف”، وهو ما تدفع إليه جاهدة بغية إشراك الدول الخليجية وتحديداً السعودية والإمارات في هذه الحروب، خاصة بعد إعادة إشعال الجبهة اليمنية جنوباً، ومحاولات الاعتداء على الحدود السعودية من العراق شمالاً.

ما يميز هذه الحروب المتسعة، أنها حروب طويلة الأمد، تهدف إلى إعادة هيكلة الشرق الأوسط بكامله، وإعادة خلق ميزان قوى جديد، لا يسمح لأحد بأن يكون منتصراً على الطرف الآخر، في عملية توظيف لكافة عناصر القوة الصلبة والناعمة معاً، عبر حروب جانبية حتى الآن، وربما تتسع إلى حرب إقليمية في المستقبل المنظور، أو حتى أكبر من ذلك، وخاصة أن النظام الدولي ككل يعيش لحظة تأزم تمهد لانهياره لصالح نظام دولي آخر، قد يستجلب معه حروباً دولية.

ويتفق الطرفان الإسرائيلي والإيراني على نقطة خلق شرق أوسط يتناسب مع قوتهما معاً، ويستثني أية قوة عربية ناشئة، لذا فالمهمة الإيرانية الساندة للعمليات الإسرائيلية تكمن في جر الطرف العربي عبر خلق خطوط صدع داخلية، تبدأ إعلامياً قبل أن يتم عسكرتها، وتحويل الصراعات القائمة إلى صراعات عربية-عربية، تحفظ إيران وإسرائيل مجال تفوق عسكري على محيطهما.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق