توظيفات الإعلام الإيراني في المجال العربي: المجال الإماراتي نموذجاً

تتنوع أدوات النظام الإيراني الموظّفة تجاه العالم العربي، والساعية لإحداث اختراقات مجتمعية، تستطيع البناء عليها مستقبلاً، في مشروع استعماري وتخريبي لم يهدأ طيلة قرون. حيث تنظر القيادات الإيرانية، على اختلاف انتماءاتها العقائدية، إلى محيطها العربي، كجائزة استراتيجية تسعى للهيمنة عليه في مشروع بناء قوتها الإقليمية، وخاصة إقليما المشرق والخليج العربيان إضافة إلى مصر.

ومن تلك الأدوات، تندرج الأداة الإعلامية، عبر عشرات الفضائيات ومئات الصحف الورقية والإلكترونية، عدا عن وكالات الأنباء، الواقعة تحت إشراف مباشر للحرس الثوري الإيراني، والموظفة كلياً في الفضاء العربي.

ومن أكثرها فعالية، قنوات العالم والمنار والميدان، إضافة إلى وكالة أنباء فارس وإيرنا (القسم العربي)، والتي زادت فعالية نشطاها منذ بداية العقد الماضي، مستغلة المتغيرات الجيوستراتيجية في العالم العربي (حرب الخليج الثالثة، الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وغزة، الانتفاضات العربية ..)، لاستحداث خطاب خاص بالمجتمع العربي، يتناول قضاياه المركزية، وفق رؤية إيرانية تحريضية تخريبية.

من ذلك على سبيل المثال، ما تم توظيفه عام 2006، عبر قنوات المنار والعالم خاصة، في مهاجمة معظم الدول العربية، التي رفضت الانخراط في مشروع عسكرة المشرق العربي، من خلال استعراض قوة إيراني في لبنان، عبر حزب الله، واستدعاء عدوان إسرائيل كان غالبية ضحاياه من المدنيين الذين لا يمتّون للحزب بصلة، عبر فهم “المقاومة حتى آخر لبناني”، ليتحول هذا الإعلام إلى إعلام تعبوي تجاه المجتمعات العربية، واستحداث شروخ تفصل بينهم.

ومن ذلك أيضاً، ما عمدت إليه جملة القنوات والصحف الإيرانية، من شن حملة تشويه حقائق إبان التحركات المذهبية في البحرين –المدعومة كلياً من إيران- في تحريض آخر على دول الخليج العربي، والسعودية تحديداً، بغية تثقيل العامل المذهبي في المنطقة، على حساب الهوية الوطنية، وهو ما يؤهل إيران بالتالي لإيجاد “شرعية” سياسية-دينية تمكنها من فرض أجنداتها على دول الخليج العربي. غير أن الحسم الخليجي السياسي والأمني، لملف التحركات المذهبية البحرينية، دفع بقناة المنار نهاية العام الماضي، بعد انفضاح كثير من تقاريرها المزيفة، إلى تقديم اعتذار عبر جامعة الدول العربية إلى مملكة البحرين، عما قدمته من أكاذيب على شاشتها.

وفي ذات الإطار تندرج التغطيات التي تقدمها تلك القنوات، لمجريات الأحداث في سورية، وخاصة قناة الميادين، التي برعت في استحداث قضايا لا وجود لها، والترويج لها، سواء من خلال تزوير فتاوى ومقالات ونسبها لرجال دين سعوديين (قضية جهاد المناكحة ونسبها للشيخ محمد العريفي)، أو عبر إظهار مرتزقة على شاشاتها لُقِّنُوا أحداثاً تتناسب مع المشروع الإيراني في سورية، متجاهلة حجم الجرائم التي يرتكبها نظام الأسد والميليشيات اللبنانية والعراقية والحرس الثوري بحق الشعب السوري. وهو ما دفع عددا ًمن المدراء في القناة إلى الاستقالة وفضح تلك الأكاذيب.

لم تتوقف وسائل الإعلام الإيرانية أو التابعة لها، عن محاولات إحداث شروخ فكرية ومجتمعية في العالم العربي، رغم كل الفضائح التي تلحق بينها بين الفينة والأخرى، والتي كان من أحدثها القضية المرفوعة ضد مدير قناة الميادين غسان بن جدو في فضيحة علاقته بإحدى موظفاته “زواج المتعة” دون موافقة زوجها. لذا لا يمكن البناء على إعلام تلاحقه الفضائح بشكل مستمر، سواء لأشخاصه أو لمهنية أخباره ومواده المنشورة.

وفيما وجد الإعلام الإيراني بعض الزبائن العرب، في فترات ماضية، من خلال التقرب من المجتمع العربي، عبر إثارة قضاياه المركزية، بلغة راديكالية، فإن هذا الإعلام عاد سريعاً ليفقد كثيراً من هؤلاء الزبائن، نتيجة انكشاف حقيقة الأبعاد التي يسعى إلى ترسيخها، ولم يبقى له سوى مجموعات طائفية أو عامية، أو نخبة تم استئجارها لخدمة أهداف إيرانية في مقابل مادي.

ولا يمكن اعتبار ما أوردته وكالة أنباء فارس منذ أيام عن دولة الإمارات إلا ضمن هذا الإطار الفضائحي، حين ذكرت أن حكام الإمارات يسعون إلى الاستعانة بخدمات شركات أمنية أمريكية لحمايتهم وحماية أملاكهم، وحماية مؤسسات الدولة، من الغضب الشعبي تجاههم، مقابل مئات الملايين من الدولارات. ونسبت الخبر إما إلى جهات لم تكشف عن هويتها، وهو خلل مهني لا يمكن البناء عليه، أو لمصادر أجنبية سارعت بنفي تلك التفاصيل، أو حتى إلى وسائل إعلام وشخصيات إماراتية.

حيث أوردت وكالة أنباء فارس ما مفاده: “كشفت مصادر أنّه بسبب خوفهم من غضب شعبي وانتفاضات محتملة، وظّف حكام الإمارات الشركة الأمنية الأمريكية سيئة السمعة بلاكووتر لحماية قصورهم .. وذكر مصدر مقرب من العائلة الحاكمة في الإمارات لوكالة أنباء فارس، أنّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، وعدد من إخوته، فضلاً عن شيوخ إماراتيين، عينوا بلاكووتر لحماية قصورهم .. وبحسب ذات المصدر الذي طلب عدم الكشف عن هويته بسبب سرية الموضوع، فقد تمّ توظيف بلاكووتر لحماية قصور الشيخ محمد بن زايد في مدينتي العين وأبوظبي فضلا عن قصور الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، حاكم الإمارات، وشيوخ إماراتيين آخرين .. وفي عام 2013، نشر الإعلام الإماراتي تقارير تقول إنّ حكام البلاد وقعوا عقوداً مع بلاكووتر بقيمة 579 مليون دولار لحماية البنايات الحكومية من انتفاضات واحتجاجات شعبية محتملة”.

فيما نفى مؤسس بلاكووتر، إريك برنس، ادعاءات تشير إلى أن المتعاقد الأمني وقع عقوداً من أجل حماية قصور تابعة لولي عهد أبو ظبي. ورفض مؤسس واحدة من أكثر الشركات الأمنية الخاصة حضوراً في عنوانين الأخبار خلال العقد الماضي، تقارير تحدثت عن تقديمه خدمات أمنية لعائلات ملكية إماراتية في مواجهة “احتجاجات وانتفاضات شعبية محتملة”.

إن إخراج نص كهذا على وسائل الإعلام الإيراني، يحمل جملة من الدلائل، لعل من أبرزها:

جهل صناع السياسة في إيران، بمسببات الثورات العربية، وأدواتها، والتي قامت في الأصل ضد حالة قصوى من الظلم والاستبداد والفقر، التي شهدتها دول الثورات، ومنها تلك التي قامت في سورية ضد تابعهم الأسد. وهي مقومات لا وجود لها في دولة الإمارات، في ظل عهد تنموي جعل من الإمارات في مقدمة الدول، وجعل مستوى دخل الفرد الإماراتي من أعلى الدخول على مستوى العالم. عدا عن حالة الأمان المجتمعي والقانوني التي يتمتع بها المواطن الإماراتي. وكان يمكن لصانع الخبر العودة لمؤشرات التنمية العربية أو تلك الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة أو حتى عن المنظمات غير الحكومية.

تعتري صياغة الخبر، تناقضات مع الخبر ذاته، فلم يعهد عن الشعب الإماراتي أن توجه ضد مؤسسات حكومية هي ملك له، في ظل احترام مطلق للبنية التحتية وقوانين إدارة البلاد التي تزداد رقياً، فكيف سيتم حماية المؤسسات الحكومية من الشعب ذاته. كما أنّ نسب الخبر إلى مصادر مجهولة، أو إلى مصادر وشخصيات إماراتية رفيعة، أو حتى إلى صحف أمريكية تنفي الحدث كلياً، هو نقض للخبر ذاته.

يأتي الخبر في توقيت حرج للساسة الإيرانيين، سواء على مستوى تدخلهم العسكري في جرائم إبادة الشعب السوري، أو لناحية اضطراهم للتخلي عن ملفهم النووي العسكري لصالح رفع جزئي للعقوبات، بغية إعادة الحياة للأوضاع الاقتصادية الإيرانية التي كانت على وشك الانهيار، وما ستُنشِأُه من أوضاع مجتمعية قد تطال النظام الإيراني نفسه. أو لناحية بروز مشروع خليجي اتحادي جديد، يقضي على المدخلات الإيرانية إلى هذه المنطقة، ويعزز من أمن دول مجلس التعاون، وهنا يغدو هذا الخبر ضرورياً لهم كمحاولة يائسة لإحداث اختراق آخر في البينة المجتمعية الخليجية.

يقتات النظام الإيراني على سياسته الخارجية، وتصدير أزماته إلى محيطه، في مواجهة سياسة داخلية معقدة، تواجه عدة ملفات متأزمة، وعلى رأسها ملف حقوق الإنسان للقوميات التي يهمين عليها النظام الإيراني، أو لناحية الأزمة الاقتصادية الكبرى التي تعصف بالنظام منذ سنوات عدة. لذا غالباً ما يعمد الأنظمة الديكتاتورية، وعلى رأسها النظام الإيراني إلى تصدير تلك الأزمات إلى المحيط الخارجي، على شكل اختلاق مسببات تدخل، من حورب وقضايا إثنية وملفات إعلامية، تجنبه مواجهة قضاياه الداخلية، وتعمل على تأجيلها، وما تأجيلها إلى زيادة في درجة احتقانها، وتحويلها من مسار يمكن إيجاد حلول نهائية لها، إلى مسار انفجار حتمي ينتظر عوامل تفجره.

إلاّ أن بعداً آخر قد يظهر في مثل هذه الأخبار التي تسعى إلى ترويجها وسائل الإعلام الإيرانية، إذ لربما رصد عملاء إيرانيون شيئاً من التغيير في الترتيبات الأمنية داخل دولة الإمارات، وتم تفسيرها وفق هذا المنطق من صنّاع الأخبار في طهران. أو أنّ إيران ذاتها ربما تكون قد جهزت مجموعات تابعة لها، لإحداث شيء من الفوضى داخل دولة الإمارات، ويتم التمهيد لذلك عبر وسائل الإعلام، وقد أزعجها جملة الاحتياطات الأمنية التي يتم إنشاؤها. وخاصة أن دولة الإمارات تستضيف مئات آلاف العاملين الإيرانيين على أراضيها، وتبلغ نسبة تملكهم العقاري 10% من نسبة التملك العقاري الأجنبي، عدا عن حجم استثماراتهم وارتباطاتهم الخارجية المذهبية والسياسية.

أو لربما عبر استغلال بعض المجموعات الأجنبية أو العربية، التي تعمل في المجال الأمني الإماراتي، وخاصة إن كانت تدين بالولاء المذهبي-السياسي لإيران.

فإن كان الخبر لا يحمل مصداقية مهنية، ولا يمكن له أن يُوَظَّف في الشارع الإماراتي، إلاّ أنّ إدراك أبعاده، والاحتراز من تداعيات تسعى إيران إلى اختلاقها في دول الخليج العربي، يبقى واجباً أمنياً ينبغي مراعاته في مواجهة أية احتمالات لذلك.

ويبقى التوظيف الإعلامي أداة عسكرية-سياسية تعمد لها كافة الدول لتعزيز مشروعاتها سواء داخل بلادها أو خارجها، ولن يتوقف الساسة الإيرانيون عن استخدام تلك الأداة، طالما أن مشروعهم ما زال قائماً في العالم العربي، ويحقق انتصارات على جبهات معينة منه.

فيما يبقى الأمن القومي العربي، أمناً كلياً يؤثر على كافة دول المنظومة العربية، ومنه لا ينبغي الاكتفاء بموقف الدفاع عن الذات في مواجهة مشروع يسعى لتوظيف كافة إمكاناته لتحقيق ذاته، فأمن دولة الإمارات لا يمكن فصله مطلقاً عن الأمن الإقليمي الخليجي، وهذا الأخير هو جزء لا ينفصل عن الأمن القومي العربي، واستدراك ثغرات الأمن القومي العربي، يبقى الأساس في صيانة كافة الدوائر الأمنية المنضوية فيه.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق