الحرب في سورية: باقية وتتمدّد

يأتي التدخّل العسكري الروسي المباشر لإسناد نظام الأسد، بعد أن أخفق طيلة السنوات الفائتة في إحراز أيّ تقدّمٍ عسكريٍّ على حساب القوى الثورية، بل وشهد تراجعاتٍ في السيطرة الجغرافية تدنّت إلى أقلّ من 25% من مساحة سورية، رغم الحضور العسكريّ المباشر للقوى الميليشياوية الشيعية والحرس الثوري الإيراني، حيث عجزت جميعها عن إجهاض الحراك الثوريّ المسلّح بكافّة أطيافه -رغم كلّ تباينات هذا الحراك وتضادّ أطرافه- وحتّى عن إعادة تأهيل الأسد ونظامه حتّى داخل حواضنه.

ويدّل التدخّل العسكري الروسي، على إجهاض كلّ ما أشيع خلال الأسابيع والأشهر الماضية، عن حلولٍ سياسية، أو عن انتصارٍ مرتقبٍ لأحد الأطراف على الآخرين، أو حتّى عن إدماج القوى المتصارعة جميعاً في جبهةٍ واحدةٍ لمواجهة تنظيم داعش.

وإن كانت بعض الأطراف تذهب إلى أنّ التدخّل الروسي هو مواجهةٌ على شكل مواجهات الحرب الباردة مع الولايات المتحدة، وتحدِّياً مباشراً لها، إلّا أنّ هذا التدخّل قد تمّ –وسيتَّسع- بالتنسيق مع الولايات المتحدة، لإرغام روسيا (غير القانعة بوضعها في الهرميّة الدوليّة) على الانخراط في حراكاتٍ عسكريّةٍ تمتدّ من شرق أوروبا (أوكرانيا) إلى الشرق الأوسط، عبر منحها بعض المصالح في هذه المنطقة، وبما يستنزف قوّتها الصاعدة من جهة، ويخفِّف من دفعها نحو إعادة تعريف علاقات القوة في النظام الدولي.

حيث باتت منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً شرق المتوسط (سورية والعراق ولبنان)، مضبوطةً بقوتين تحمي كلاهما المصالح الأمريكية فيها، فمن جهةٍ تسيطر إيران على العراق ومساحاتٍ من سورية ولبنان، وتتّجه إلى تعميق علاقاتها مع الولايات المتحدة، بل وحتّى ربّما مع إسرائيل في مرحلةٍ لاحقةٍ قريباً، بينما تُشكِّل القوّة الروسية المُستَقدَمة حديثاً، خطّ دفاعٍ أماميٍّ في مواجهة القوى المناهضة للولايات المتحدة، والقوى القادرة على تغير المعادلات في الشرق الأوسط، أي مواجهة القوى الثورية الطامحة إلى إعادة بناء دول المنطقة، كما أنّ حضور روسيا العسكري يشكِّل من جانبٍ آخر صمّام أمانٍ لإسرائيل.

هذه المحرقة التي تدفع الولايات المتحدة إلى إشراك الجميع فيها، على ألّا يكون هناك أيّ منتصر، فهي ترى أنّ على الأسد أن يرحل ولكن ليس الآن، ما يعني استمراريّة الحرب القائمة، وهي تحارب داعش في العراق، فيما تتغاضى عنه في سورية، وتساند التحالف العربي في اليمن في مواجهة إيران وميليشياتها الحوثية، فيما تتّفق مع إيران على ضبط العراق، عدا عمّا يُحضَّر لاستدراجٍ واسعٍ لتركيا إلى ساحة المعارك شرق الأوسطية، من خلال إعادة عسكرة الملف الكرديّ، سواء في جوارها أو في داخل حدودها.

لا يمكن لروسيا أن تحقق انتصاراً ما عاد متاحاً، جلّ ما يمكن أن تذهب إليه، هو تعزيز خطوط الفصل الإثني (المذهبي) لمشروع دولة العلويّين كما فعلت في إقليم القرم بعد اقتطاعه من أوكرانيا، دون أن يعني ذلك نجاح مشروع التقسيم الإثنيّ (العرقي والمذهبي) لسورية، بل هو حتماً يحمل معاني استمراريّة حالة الحرب إلى أجل متوسط، يمتد لسنوات أخرى (3-5 سنوات).

كما أنّ هذا الحضور الروسيّ سيُشكِّل عامل جذبٍ لمزيدٍ من الجهاديين من عدّة مناطق في العالم، وخاصّةً من أولئك المناهضين لروسيا في الأساس. فيما لا تستطيع روسيا –على عكس إيران- أن تستثمر كثيراً من قوّاتها ومواردها في هذه الحرب، لغياب البعد الأيديولوجي الذي وظّفته إيران من جهة، ولانخفاض القيمة الاستراتيجيّة لسورية في الحسابات الروسية مقارنة بإيران. فخروج سورية من القبضة الروسية، لا يعني بأيّ شكلٍ من الأشكال انهيار القوّة الروسية، وهي غائبةٌ أصلاً عن المنطقة منذ نهاية الحرب الباردة، فيما تشكِّل ذات المعادلة إشكاليّةً كبرى للحسابات الإيرانية، حيث يتبعها لبنان والعراق، وهو المجال الاستراتيجي الأوّل لإيران. في حين أن الاستثمار الروسي الكثير سيحمل معه عبء التاريخ السوفييتي في أفغانستان، وما قد يحمله من انتكاساتٍ لمشروع إعادة المكانة الدولية لروسيا.

فيما تترك الولايات المتحدة متعمدةً جميع القوة في حالة إشغالٍ دائمٍ في محرقة الشرق الأوسط، فيما تتحضّر لمرحلةٍ دوليّةٍ جديدة عقب عام 2017، لم تتوضّح معالمها بعد، وإن كان كثيرٌ يذهب إلى أنّها مرحلة المحيط الهادي وشرق آسيا.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق