نحن وأميركا الجديدة.. دنيا القوي

مثلما أجازت أميركا لنفسها أن تقلص دورها في الدفاع عن أمن وسلامة المنطقة وتحدده بمهمة صد أي هجوم أجنبي مباشر فقط، وقررت اعتبار ما يقوم به حزب الله، وما تقوم به عصائب الحق في العراق، وما يقوم به الحوثيون في اليمن، وما تقوم به بقية أفرع جماعة الولي الفقيه في الدول العربية، بمن فيهم الفرع البحريني والسعودي، مجرد «سخط» لشباب باحث عن فرص عمل، وعدم الاعتراف بأن هذه المجاميع تخوض حربًا بالإنابة عن إيران بالهجوم علينا، فإن علينا نحن إذًا أن نعيد ترتيب أوراقنا، ونعيد رسم استراتيجيتنا وتحالفاتنا تجاه هذه المتغيرات.
هذه الاستراتيجية الأميركية الجديدة قالها أوباما بأكثر من طريقة وأسلوب، صرح ولمح بها: «لماذا لا يمكننا رؤية عرب يحاربون ضد الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان أو يقاتلون ضد ما يفعله الرئيس بشار الأسد في سوريا؟» (باراك أوباما لتوماس فريدمان أبريل/ نيسان 2015).
هذه ليست هي المرة الأولى التي يلمح فيها باراك أوباما بهذا الرأي، وآخرها لقاؤه مع توماس فريدمان، وهي تلخص كثيرًا استراتيجيته ومواقفه من دول الخليج تحديدًا، والتي أعلن عنها في بداية عام 2012، وأبرز ملامحها أن الولايات المتحدة هي من سيحدد أوجه الخطر على منطقتنا لا نحن، ولن تسمح أن يقاتل الأميركيون نيابة عن أبناء دول الخليج في ترتيب بيتهم الإقليمي إلا في حالة الضرورة القصوى، كما في حالة الحرب على «داعش»؛ لأن ذلك خطر قد يمتد ويصل إليهم، وحتى في هذه الحالة سيكون التدخل دون قوات على الأرض قدر المستطاع.. هذه أبرز ملامح استراتيجية باراك أوباما تجاه دول المنطقة.
والمؤشرات حول تغيير طبيعة العلاقة بيننا وبين الولايات المتحدة وما يترتب عليها من التزامات، تحفل بها العديد من أدبيات مراكز البحوث والدراسات التي تتناول الاستراتيجية الأمنية الجديدة للولايات المتحدة ، والتي ترجح أن يقل الوجود العسكري الأميركي بمنطقة الخليج مستقبلاً، ومنها دراسة لمركز «برنت سكوكروفت للأمن الدولي» التابع للمجلس الأطلسي بعنوان «مستقبل الاستراتيجية الدفاعية والوجود العسكري الأميركي في الخليج» التي أعدَّها كلٌّ من «بلال صعب» Bilal Y. Saab الزميل الأول لأمن الشرق الأوسط، و«باري بافيل» Barry Pavel نائب الرئيس ومدير مركز «برنت سكوكروفت للأمن الدولي»، والتي أرجعت الحد من الوجود العسكري للأسباب التالية:
1: سياسة «إعادة التوازن الأميركي» في إقليم آسيا والمحيط الهادي، التي كان قد أعلنها الرئيس أوباما في إطار سياسته الدفاعية في عام 2012، والتي تعني في المجمل محاولة فك الارتباط مع إقليم الشرق الأوسط في مقابل التركيز الأكبر على الإقليم الصاعد في آسيا والمحيط الهادي، خصوصًا أن المشكلات التي يتعرض لها الشرق الأوسط باتت أكثر تعقيدًا وخطورة، وتتطلب تكلفة أعلى ومجهودًا مضاعفًا قد يؤثر على الاستراتيجية الأميركية في الإقليم الأهم في وجهة نظر واشنطن حاليًّا، وهو آسيا والمحيط الهادي.
2: التحديات الأمنية الجديدة التي تواجه أوروبا، خصوصًا بعد الأزمة الروسية – الأوكرانية عام 2014، والتي دفعت الولايات المتحدة إلى تعديل خططها تجاه أوروبا بعد أن كانت قد خفَّضت وجودها العسكري في القارة، مما جعلها الآن تُعيد الدعم العسكري لحلفائها الأوروبيين بعدد من الألوية المسلحة وطائرات F35، بالإضافة إلى وحدات الطائرات التكتيكية، وذلك لردع أي عدوان آخر من الجانب الروسي في ضوء الأزمة.
3: تخفيضات موازنة الدفاع الأميركية، حيث يُفتَرَض أن تُخفِّض الإدارة الأميركية من إنفاقها العسكري خلال السنوات المقبلة. وتكمن مشكلة هذا الخفض في أنه يتزامن مع تزايد التحديات على مستوى العالم، خصوصًا في ثلاث مناطق رئيسية هي (الشرق الأوسط، وآسيا والمحيط الهادي، وأوروبا)، والتي تعتمد كلها على السلاح الأميركي؛ لذا فإن هذا الخفض لا يصب في مصلحة دول هذه المناطق، خصوصًا دول الشرق الأوسط والخليج العربي.
4: انتشار التكنولوجيات الدفاعية المدمرة؛ إذ إن الاتجاهات المتسارعة في التطور التكنولوجي تؤثر بشكل متزايد على كل من الولايات المتحدة والأمن العالمي، خصوصًا أن تلك التكنولوجيات قد يكون لها تأثيرات غير متوقعة. ورغم أنها تكون موجهة بالأساس للاستخدامات المدنية أو الصناعية، فإن لها أيضًا أبعادًا عسكرية. وقد دفع هذا التطور المتزايد بعض خبراء التكنولوجيا إلى تحذير إدارة الرئيس أوباما من خطورة هذا الأمر إذا لم يتم استغلاله بشكل جيد، بدلاً من التركيز على الإنفاق العسكري، وهو ما قد يدفع لتغيير المنظور الأميركي للوضع العسكري في السنوات العشر المقبلة.
5: تنامي القدرات العسكرية الإيرانية، فالولايات المتحدة والقوى الغربية قد صبَّت جُلَّ اهتمامها في العقد الماضي على البرنامج النووي الإيراني، دون الانتباه للتطورات المستمرة التي تقوم بها طهران في قدراتها العسكرية من حيث ترسانة صواريخها التي قد تستهدف دول الخليج، وقدرتها على إنتاج أسلحة خاصة بها مع تقليل الاعتماد على الغرب في هذا الأمر.
6: استمرار انتشار الجماعات المتطرفة، فعلى الرغم مما قامت به واشنطن لدحر انتشار الأفكار المتطرفة، فإن التهديد الإرهابي أصبح أكثر عنفًا وتعقيدًا خاصة مع انتشار تنظيم داعش، وتمدد الجماعات المتشددة في العديد من دول منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يعني أن تلك الجماعات ستظل تنتشر طالما ظلَّت الأسباب التي تدفعها لممارسة العنف السياسي، وطالما لم تُحل المشكلة من جذورها. (انتهى الاقتباس).
ورغم اختلافنا مع هذه الإدارة الأميركية، وهذا الرئيس تحديدًا، حول مهددات أمن المنطقة وحول طبيعة العلاقة والدور المنوط بالولايات المتحدة لحفظ الأمن فيها، فإن ذلك لا يمنعنا من القول إننا نتفق مع هذه الرؤية تمامًا بأننا أولى بالحفاظ على أمنها من غيرنا.
إلا أنه مثلما يحق له أن يعيد ترتيب دور دولته في حفظ الأمن في المنطقة ويعيد تعريف مهددات الأمن فيها، يحق لنا كذلك أن نحدد نحن، أصحاب الأرض، مصادر الخطر علينا، ونحدد على أثره دور حلفائنا، بل والأكثر من هذا أنه يحق لنا أن نحدد نحن لا غيرنا حجم مصالح شركائنا بقدر حجم مساهمتهم، فالاثنان (المصالح والدور) مرتبطان ارتباطًا شرطيًّا، بحيث تصغر أو تنمو تلك المصالح بقدر حجم الدور المنوط بالشركاء.
فإن أعاد حلفاؤنا ترتيب أوراقهم وشراكاتهم معنا وفق مصالحهم ووجدوا أن مصلحتهم لم تعد مع أمة ميتة – كما يظنون – بل مع شريك حي قوي – أيضًا كما يظنون – وصل إلى باب المندب والبحر الأبيض المتوسط، ولم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل، فإنه من حقنا أن نعيد ترتيب حجم مصالحهم معنا نحن كذلك؛ في ما يتعلق بالتسهيلات اللوجيستية الممنوحة لهم على أرضنا، وفي ما يتعلق بالطاقة كمًّا وسعرًا، وفي ما يتعلق بالاتفاقيات والمعاهدات، وفيها كلها كان للولايات المتحدة نصيب الأسد، إذ إنه كان قياسًا بحجم الدور المنوط بها سابقًا وقياسًا بالاستراتيجية القديمة التي تم الاتفاق عليها منذ نصف قرن بين الملك عبد العزيز وأيزنهاور.
أما هذه الرؤية الأميركية الجديدة، وهذه الاستراتيجية الأميركية الجديدة، فيجب ألا تعيد ترتيب طبيعة ونوعية ودرجة التحالف المشتركة بيننا وبين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون، بل يجب أن تعيد ترتيب المصالح المشتركة كذلك حتى لا تكون مصالحهم عبئًا دون منفعة.

سوسن الشاعر

نقلا عن الشرق الأوسط

 

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق