مظاهرات العراق ولبنان.. انهيار جبهة الفساد

لكثرة تسارع الأحداث وتنوّعها وتعدّدها في الدول العربية اليوم، لم نعد قادرين على التأسيس لرؤية شاملة لا على مستوى الدولة القطرية، ولا على مستوى النطاق الإقليمي لهذه المجموعة العربية أو تلك. أما بخصوص ما هو قومي مشترك، فإنه لا يتعدى التحذير، قولا، عبر خطاب سياسي أو إعلامي لا يتعدى التعبير عن اللحظة، أو ليه وتطويعه حتى يبدو متفقا ومتناسقا وخادما للتوجه السياسي للـدولة القطرية على حساب ما هو قومي عام، وفي أرقى الحالات وأكثرها تجلياًّ هي الدعوة إلى اجتماع لجامعة الدول العربية على مستوى المندوبين بدعوة من الدولة المتضررة، على غرار ما حدث في الأيام الأخيرة حين استنجدت ليبيا بباقي الدول العربية لدعمها في مواجهة إرهاب داعش.

وبالرغم من أن الأحداث العربية تمر سريعة، مصبوغة بالقتل، وكاشفة عن سوءاتنا في مختلف مجالات الحياة على المستوى المحلي، وعن انهيار كامل في علاقاتنا البينية، الأمر الذي يعمق مرحلة التّيه على حساب الرشد، إلا أن هناك بصيص أمل من خلال عودة للشعوب في موقف يبدو أقرب إلى إنقاذ ما تبقّى من مسببات ومبررات البقاء، وهذا الأمل يأتي من العراق أولا، ومن لبنان ثانيا، حيث يتعمق كل يوم الفعل الاجتماعي على حساب السياسي، والوحدوي الوطني على حساب الطائفي-التقسيمي، في تجربتين قد تعيدان للعراقيين وللبنانيين، ومعهم من أراد أن يتغير من العرب، بعضا من حراكهم الإيجابي.

ما يحدث في العراق ولبنان، لا يمكن أن يمرّ دون أن يكون له تأثير على مستقبل الدولتين لجهة التغير السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ذلك لأن الفساد خلال السنوات الماضية، مع اختلاف نسبي بين الدولتين يرتبط بالمداخيل والمقدرات الاقتصادية، عمّق الجراح الاجتماعية، وشكل علاقات تفاهم ومودة ومصالح بين المرجعيات الدينية والسياسية على حساب الشعب، ومكّن لجماعات الفساد، التي أصبحت في عملها أقرب إلى الميليشيات، بل إنها لا تختلف في عملها الإجرامي عن الجماعات الإرهابية، وأوجد طبقة جديدة من الأغنياء وأصحاب المصالح، ذات ارتباطات خارجية سواء من دول الجوار أو من دول أخرى لها مصالح مباشرة أو غير مباشرة في الدولتين.

لقد كشفت السنوات الخمس الماضية، أي منذ انطلاق الانتفاضات في معظم الدول العربية، أن حـركة التغيير مـن طـرف الشعوب تصل في الغالب إلى تمكين قوى سواء كانت سياسية وريثة للأنظمة البائدة، أو تنظيمات دينية كانت تتربص الدوائر منذ عقود بالشعوب وبأجهزة الحكم لتستولي عليها، وفي أحسن الأحـوال يحدث تحالف بين القوى المدنية والقوى الدينية، كما هي الحال في التجربة التونسية، التي تعدّ، إلى الآن، أنجح تجـارب التغيير في الوطن العربي وأقلها خسارة من ناحية التكاليف المادية والبشرية، ولسنا هنا بصدد تقييم التجارب العربية لجهة الانتفاضة وتغيير الحكم، كما أن مسألة الشرعية ليست مجال حديثنا مع أنهـا تشكـل القضية الجوهرية في كل الأحداث الجارية وإن بدت متوارية، إنما ما يعنينا هنا هو اتساع دائرة الفساد في الـدول العربية حتى أنهـا أصبحت مرادفـة لأي فعل سياسي، بما في ذلك قرارت الحرب، وما يزيد الأمـر سوءا هو علو الصوت الواحد في السياسة والإعلام، وإقصاء، بشكل علني مفضوح، كل الآراء الرافضة للفساد السياسي والمالي في الدول العربية.

من هنا يمكن التعويل على حركة الشعبيْن العراقي واللبناني، ليس فقط لرفض الفساد، ولكن للمطالبة الواضحة الصريحة بدولة القانون والمؤسسات، بعيدا عن أي محاصصة طائفية أو مذهبية، بما يمكن اعتباره خطوات عملية لقيام دولة مدنية جامعة غير منفرة، تحتاج إليها الدول العربية، جميعها، في ظل تراكم الفساد والظلامية والخلافات التي تمعق من مآسينا على المستويين القطري والقومي.

لا يكمن للمراقب إلا أن ينجذب إلى جمال الروح الوطنية العالية والمؤثرة لدى نساء العراق، الشابات منهن خاصة، والعلم العراقي مرسوم على الوجوه وعلى الأيادي في حركة غابت منذ احتلال أميركا للعراق، وكذلك الحال بالنسبة لباقي العراقيين من الشباب، وطلاب الجامعات والكهول والشيوخ، وحتى الأطفال، حيث الرفض في أجمل معانيه لكل ما هو طائفي أو مذهبي، وهو ما ينطبق أيضا على نساء لبنان ورجال لبنان، حيث التعايش بين كل أفراد الشعب بعيدا عن حسابات السياسيين وجماعات الفساد، في سابقة مزعجة لأصحاب المصالح الذين تسببوا في إغراق بيروت لأكثر من شهر في النفايات، حتى غدت عاصمة قذرة في فصل موسمها السياحي، الذي ضاع منها هذا العام.

وكما كان الفساد مفرقا بين طبقات المجتمع عند نشأته الأولى، وبعد أن توسّع وكثر أنصاره، وفي بعض الدول العربية الأخرى تحول إلى ثقافة عامة كما هو الأمر في الجزائر، فإنه اليوم فاصلا لجهة رفضه من قوى اجتماعية واسعة أظهرت فرزا واضحا بين مصالح عامة الشعب، ومصالح القوى الدينية والسياسية المتحالفة، والتي تفرقت اليوم ظاهرا في العراق ولبنان تحت وطأة الرفض الشعبي للواقع، ولكنها في حقيقة الأمر لا تزال متحالفة لأن مصالحها واحدة، وبالتأكيد ستتبرأ وستعلن شراكاتها إن استمرت المظاهرات وجاء وقت الحساب، وما الرد الأولي لرئيس الحكومة العراقي السابق، نوري المالكي، حول اتهامه بالفساد بما في ذلك تسليمه الموصل إلى داعش إلا بداية لانهيار جبهة الفساد.

لاشك أن المظاهرات في العراق ولبنان حدث محلي خالص إذا نظرنا إليها من زاوية الأسباب الداخلية، خاصة استشراء الفساد واستفحال آثاره، لكنها أيضا تشكل انطلاقة جديدة في انتفاضات عربية شاملة آتية لا محالة في الكثير من الدول العربية، لأن الفساد أصبح حالة عربية عامّة، وإن اختلفت أسبابه ومظاهره ومسمياته، ولن يجدي معه إشغال الشعوب العربية بالانتخابات وبالتغييرات الجزئية وبالمنجزات البطيئة، وحتى بحروب جوارية أو استباقية أو محلية أهلية.

نقلاً عن العرب اللندنية

خالد عمر بن ققة

 

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق