مرسي يرسي المشروع الإيراني في البيئة العربية

تعتمد محددات السلوك الإيراني تجاه البيئة العربية على عاملين رئيسين، يتمثل أولهما في صيانة الأمن القومي الإيراني وحماية النظام القائم ضمن بيئة تعجّ بالاضطرابات والأزمات حتى ما قبل ثورتها عام 1979، فيما يقوم المحدد الآخر للسياسة الإيرانية، على تشكيل قوة إقليمية كبرى، تستطيع نشر نفوذها في كامل المنطقة، وتسعى لتحقيق المصالح الإيرانية فيها.

إذ يقوم المشروع الإيراني على فرضية مفادها أنّ توازن الرعب في الخليج العربي، والحضور الإيراني الكثيف في البيئة العربية، سوف يضغط على الولايات المتحدة لقبول إيران كشريك إقليمي بارز، وبالتالي تقاسم المصالح والنفوذ في المنطقة.

حيث تتعامل إيران مع المنطقة وفق المنطق ذاته الذي تعاملت به في الفترة (1970 – 1979)، عبر افتراض وجود فراغ قيادي، يسمح لها بتولي زمام المنطقة. بعد أن أسقطت حرب الخليج الثالثة 2003، أكبر تحدٍ لإيران فيها، مما أطلق طموحاتها الإقليمية.

وأدركت إيران تماماً طبيعة النظام الدولي القائم بعد الحرب الباردة، واستطاعت أن تتجنب الخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه العراق عام 1990. فرغم التهديدات الكبيرة التي أحاطت بها، ورغم آفاق النفوذ المفتوحة أمامها، إلا أنّها تجنبت استخدام قواتها على أي من تلك الجبهات.

ومع أنّها سعت إلى إنشاء جملة من العلاقات مع القوى الإقليمية والدولية (روسيا، الصين، كوريا الشمالية، فنزويلا، سورية ..)، عبر التشارك معها بمجموعة من المصالح، إلا أنّها ظلت مقتنعة بأنّ الولايات المتحدة هي من يتحكم بالنظام الدولي القائم، وأنّ قدرات القوى الأخرى عاجزة عن منع أيّ اعتداء عليها، وأنّ للولايات المتحدة نفوذاً كبيراً داخل مجلس الأمن، تستطيع إلى حد كبير توظيفه ضد إيران.

وفي ظلّ ذلك، يتراوح السلوك الإيراني تجاه النظام الدولي، بين المحافظة على الأولويات العليا للأمن الإيراني، والمراوغة بين اللين والتصلب إزاء نشر النفوذ في البيئة العربية.

وتعتمد إيران على مجموعة أدوات وآليات لتحقيق مشروعها، أهمها ما يلي.

–       البراغماتية والمناورة الاستراتيجية تجاه التهديدات التي تتعرض لها.

–       القوة المسلحة (دعم الحلفاء، بناء القوة الردعية، التهديد).

–       الإيديولوجية الثورية (رفض وجود الكيان الإسرائيلي، نشر المذهب الشيعي).

–       وتبقى الأداة الاقتصادية ذات فعالية منخفضة نسبياً نتيجة ما يفرض عليها من عقوبات تتسع باستمرار.

ورغم أنّ الحفاظ على النظام الإسلامي القائم في طهران من أولويات النخبة الحاكمة الإيرانية، إلا أنّ الإيديولوجية الإسلامية لم تشكل محدداً للتوجهات الإيرانية، بقدر ما كانت أداة سلوك إيراني منذ عام 1979، سواء عبر محاولات نشر النظام الثوري في المحيط الإيراني، أو اعتماد الخطاب الرافض للوجود الإسرائيلي في المنطقة.

حيث وُجِّه الخطاب الإسلامي إلى دول إسلامية بالأساس، وتقع ضمن المجال الاستراتيجي للمصالح الإيرانية، فلم تحاول إيران تصدير ثورتها شرقاً أو شمالاً حيث النفوذ (الروسي، الصيني، الهندي – الباكستاني، التركي)، كما لم تقم عقيدتها في نشر الإسلام في دول غير إسلامية، بل اتجهت نحو العراق وسورية ودول الخليج العربي، ولاحقاً في معظم المحيط الاستراتيجي الإيراني.

كما أنّ دور الإيديولوجيا الإسلامية، توقف في عهد الرئيسين رفسنجاني وخاتمي، بعد أن كان ضرورة استراتيجية في عهد قائد ثورتها خميني لتوحيد الداخل حول ثورته، ثم عاد باتساع عالمي مع الرئيس نجاد كأداة لتحقيق نفوذ في منطقة تعتبر في نظر القيادات الإيرانية فراغاً استراتيجياً يتحتم عليهم ملؤه.

وتعتبر التوجهات الإيرانية في عهد الرئيس نجاد تجاه إسرائيل، نتاج إدراك العوائق القائمة أمام النفوذ الإيراني، حيث اعتبرت إيران أنّ الكيان الإسرائيلي إلى جانب الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، يشكلان عائقاً رئيساً في مد النفوذ الإيراني من ناحية.

وتعتبر سورية ما قبل ثورة 2011، بوابة إيران إلى العالم العربي، نتيجة تحالف استراتيجي أنشأه نظام الأسد الأب، وحوله الأسد الابن إلى تبعية سورية لإيران، مزجت فيه إيران ما بين الخطاب الثوري تجاه إسرائيل، ومحاولات التوسع الإيديولوجي داخل المجتمع السوري، لكسب مزيد من النفوذ اجتماعياً، دون أن يقدم لها ذلك سنداً فعلياً إبان الثورة السورية.

ونتيجة الهوة ما بينها وبين المجتمع السوري، على خلاف موقعها في البيئة العراقية، تدرك إيران أن سقوط نظام الأسد، هو خسارة استراتيجية كبرى، فقدمت وما تزال كل ما استطاعت عسكرياً وسياسياً واقتصادياً في محاولة للمحافظة على الحليف الأبرز في البيئة العربية، مستخدمة كل أدوات سياستها الخارجية للمحافظة على مصالحها. وخاصة أن نفوذها في دول عربية أخرى كالبحرين واليمن لا يعادل أبداً نفوذها في سورية. لتتحمل وفق ذلك مسؤولية جنائية دولية إلى جانب الأسد، في ارتكاب جرائم حرب ضد الشعب السوري.

وإن كان البعض أرجع الدعم الإيراني لنظام الأسد لأسباب عقائدية فحسب، إلا أن هذه المبررات لم تكن سوى أدوات وظفتها القيادات الإيرانية لحشد رأي عام مؤيد لها، في عمليات مد نفوذها على امتداد العالم العربي عامة، وعلى وشرائح سورية بعينها بشكل خاص.

ومع استمرارية الثورة السورية، ونجاحها في التقدم باتجاه إسقاط نظام الأسد، عملت إيران على استغلال المتغير الجديد في البيئة العربية، وهو المتغير الثوري، لإعادة تموضعها عربياً، وخاصة في مصر، كتعويض عن خسارتها لسورية.

ورغم التباين العقائدي بين النظامين المصري والإيراني من حيث الانتساب الديني، إلا أن اجتماع البراغماتية السياسية لدى الطرفين، سهل من إعادة إنعاش هذه العلاقات، بعد انقطاع دام قرابة 34 عاماً.

وفي غياب قوة عربية قادرة على موازنة التوسع السياسي والاقتصادي الإيراني في البيئة العربية، استطاعت إيران تأسيس نهج جديد في الدول العربية الإفريقية، وخاصة مصر والسودان وتونس، حيث كان من الممكن أن تلعب السعودية دور هذا الموازن، لكن انسحابها من ملفي العراق وسورية، ثم من ملف مصر بعد الثورة، ساهما في توسيع الامتداد الإيراني عربياً، وخاصة عبر إدراك إيراني لحاجة مصر في هذه الفترة لجملة استثمارات خارجية تنشط اقتصاداً أنهكته الثورة والاضطرابات اللاحقة لها، كما أنها تشكل لها سنداً سياسياً في مواجهة قوى عربية غير راضية عن توجهات نخبها الحاكمة الحالية.

ورغم أن طبيعة السياسة الخارجية المصرية متباينة مع سياسة إيران الخارجية، لناحية ارتباطها مع الولايات المتحدة من جهة، ومحافظتها على اتفاقية السلام مع إسرائيل من جهة ثانية، فإنه يفهم من ذلك، محاولة إيران الخروج من الحصار السياسي المفروض عليها عربياً عبر البوابة المصرية من جهة، وخلق أقنية اتصالات خلفية مع الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة ثانية، في ظل تصاعد التهديدات بتوجيه ضربة عسكرية لها.

وإن كان نمط بناء علاقات إيرانية- مصرية ما زال في مطلعه، إلا أنه مرشح للتوسع في المستقبل القريب، وخاصة إصرار الحكومة المصرية على دور سياسي لإيران تجاه الثورة السورية، عبر الدعوة لمؤتمر يناقش المسألة السورية بحضور إيراني.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن الشبكة العربية العالمية

الوسم : إيرانمصر

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق