مدى التقاء المصالح السعودية التركية في المنطقة

لا يخضع رسم الاستراتيجيات الإقليمية والدولية وحتى الوطنية للأيديولوجيات، وبعدما أعادت السعودية إلى مصر الاستقرار، وإنقاذها من اختطاف وهيمنة الإخوان المسلمين، عاداها الإسلاميون، وعندما تحالفت السعودية مع تركيا في سوريا، عاداها القوميون، بينما السعودية هي ليست تبعا لأي طرف، بل هي لديها نظرة أوسع مما يتوقعون ويتطلعون إليه، ولا تخضع السعودية إلى مثل تلك النظرات الضيقة، التي أعاقت تقدم مشروع الإسلاميين كما أعاقت من قبل تقدم مشاريع القوميين.

كما أفشلت السعودية تعكير العلاقات السعودية المصرية أكثر من مرة، في حين أثبتت السعودية أن ما يحلم به الإسلاميون غير واقعي وغير ممكن في زمن الدول الذي هو غير زمن مشروع الجماعات والمجموعات، بل على العكس خابوا وخسروا عندما عززت السعودية من تلك العلاقة، التي كشفت عن تشابك كبير في الأهداف الاستراتيجية.

 كذلك أفشلت السعودية تعكير العلاقات السعودية التركية، سواء أتت من القوميين أو الطائفيين الموالين لإيران مستغلين التدخل الروسي في سوريا ومستغلين إسقاط تركيا طائرة روسية في الأراضي المحاذية لتركيا.

مثل هؤلاء قد لا يفهمون رسم الاستراتيجيات بل هم بعيدون عن رسم الاستراتيجيات الكبرى، والآن تجتمع أمريكا وروسيا التي يعولن عليها في تنفيذ مشروعهم الطائفي تحت مظلة الأمم المتحدة في جنيف حول سوريا لتنسيق المواقف.

 ولولا أنه لدى السعودية حضور استراتيجي دولي، لما يكرر وزير الخارجية السعودي قوله إنه على الأسد إما أن يرحل عبر حلول سياسية أو يرحل عبر الحلول العسكرية، وهي تدرك أن روسيا حاضرة في سوريا، لكنها أيضا ترى في حضور روسيا خلق أزمة في المنطقة ليس فقط للإقليم، بل للغرب أيضا، فرض عليه التحرك بعد اللامبالاة التي يمارسها في سوريا عبر خمس سنوات.

السعودية هي التي تتولى تنسيق المواقف بين المعارضة السورية في العاصمة الرياض تحاشيا لتعدد مواقف المعارضة ما بعد الأسد، حتى لا تتحول سوريا إلى ليبيا أخرى، بعدما تخلص الليبيون من القذافي بتدخل فرنسي، لكن التدخل الفرنسي لم يكمل مشروعه لاستعادة الاستقرار في ليبيا ما بعد القذافي.

إيران منزعجة من السعودية التي تضغط على الغرب بأن الحل لا يكون فقط في سوريا، بل وفي العراق أيضا، وهي تقنع الغرب بأن داعش أتى من العراق إلى سوريا، أي أن مصدر الإرهاب هي الفوضى السياسية في العراق، والفراغ الذي خلقته سياسات المالكي، عندما مارس سياسات طائفية ضد سنة العراق بإحياء من إيران، والآن يمارس الحشد الشعبي الموالي لإيران تطهيرا عرقيا بحجة محاربة داعش مثلما مارسه في تكريت بعد تحريرها من داعش.

تلعب السعودية استراتيجية كبرى، تفوق قدرات القوميين والإسلاميين، وهي تهدف إلى لجم التوسع الإيراني في المنطقة، عبر ممارسة استراتيجيات قد لا يفهمها مثل هؤلاء، وقد لا يفهمون أيضا أن السعودية لم تقطع علاقاتها الإستراتيجية التي أقامتها مؤخرا من خلال توقيع العديد من العقود مع روسيا بعد حضورها الكثيف إلى سوريا، رغم أنها تحاربها في سوريا عبر الوكالة، سواء عبر الضربات التي وجهتها دول التحالف في دير الزور، عندما استهدفت روسيا المعارضة السورية، وكذلك عبر المعارضة السورية المزودة بالأسلحة النوعية المقدمة لها من الولايات المتحدة وغيرها.

بعض القوميين يرون أن تركيا بعدما فقدت أوراقها في سوريا والعراق اتجهت إلى ضرب الطائرة الروسية، وإرسال 150 جندي إلى العراق، هم بذلك فقدوا البوصلة، ولم يستوعبوا رسم الاستراتيجيات الكبرى التي تمارسها الدول الكبرى، وهل تستطيع تركيا ضرب طائرة روسية دون موافقة الولايات المتحدة؟، وهل تستطيع تركيا مجابهة روسيا بمفردها؟ رغم أن الناتو في اجتماع خاص عاتب تركيا على القيام بمثل تلك الخطوة، مما يشير إلى أن تركيا حصلت على موافقة الولايات المتحدة فقط، قد يكون بالتنسيق مع السعودية، وهو ما لاحظناه فيما بعد من أن الولايات المتحدة تدافع عن تركيا وبشكل خاص عن أردوغان من اتهامات بوتين لأردوغان بشكل مباشر هو وابنه، ودافعت عنهما بأنهما لم يشتريا النفط من داعش، بل باعته داعش للنظام السوري، بسبب أن تركيا والسعودية لا تريدان تقسيم سوريا، التي تتجه كل من إيران وروسيا إلى تقسيمها بعدما فشلوا في السيطرة الشاملة على سوريا.

هناك تنسيق سعودي تركي أمريكي مع حكومة كردستان العراق في لجم الحشد الشعبي في الاستفراد في محاربة داعش، حتى لا تنفذ إيران تطهيرا عرقيا ضد السنة، وقيادة إقليم كردستان تنسج علاقات مصلحة مع أنقرة، وأردوغان في ظل سياسات أمريكية ضد أوجلان يعطي فرصة للأتراك في منع قيام دولة كردية.

لذلك نجد أن الولايات المتحدة ترسل عددا من مدربيها بالتنسيق مع العشائر السنية في العراق، رغم اعتراض حكومة المركز، لأن الولايات المتحدة تدرك أن العبادي مكبل اليدين، الذي لم يتمكن حتى الآن من تحقيق إصلاحاته التي اتخذها مؤخرا في العراق، بسبب أن إيران جعلت حكومة بغداد ضعيفة، تلك التي ورثتها من بول بريمر وأصبحت حكومة بغداد تحت هيمنة مليشيات الحشد الشعبي المنقسم في الأصل بين عدد من الجبهات، ولكن يرأسه هادي العامري التابع للمالكي وإيران.

من حق تركيا أن تتوجس من ضم الموصل إلى كردستان العراق بعد تحريرها والتواصل مع أكراد سوريا لتحقيق دولة الأكراد الكبرى، مما يشكل خطرا على الأمن القومي التركي.

في ظل هذه الفوضى والصراعات الإقليمية والدولية، فكما حدث في كركوك وسنجار ضم الأكراد هاتين المنطقتين ووضع الآخر أمام أمر واقع، وهو هاجس ليس فقط عراقي بل وأيضا تركي.

 بعد تحرير تلك المناطق من داعش لن تعود هاتان المنطقتان وغيرهما لا إلى كردستان ولا إلى بغداد، بل ضمن قانون فيدرالي تتولى تحقيقه الولايات المتحدة بحكم أن لديها اتفاقات مع بغداد قبل خروج قواتها من بغداد وبالتنسيق مع السعودية، وإن كانت تركيا تريد أن تستفيد من هذه الفرصة من أجل وجود موطئ قدم وحتى لا تترك إيران تستفرد بالعراق وهي أيضا تصب في صالح الاستراتيجية السعودية للجم التوسع الإيراني.

طبيعي أن العرب منذ سقوط بغداد، ومنذ ثورات الربيع العربي في سوريا، خصوصا بعدما ضربت ثورات الربيع العربي قلب المنطقة العربية مصر، فأصبح الدور العربي معوقا بل وغائبا بالكامل، ولم يتبقى سوى منطقة الخليج بقيادة السعودية، التي تحملت مسؤولية الدفاع عن المنطقة العربية، بعدما أصبحت منطقة مستباحة، ومنطقة صراع إقليمي ودولي، لكن السعودية فوتت على اللاعبين الإقليميين والدوليين وأثبتت لهم بأنهم متوهمون في رسم خرائط  جديدة في المنطقة وأن زمن رسم الخرائط قد انتهى.

نتيجة الانقسام العربي حول قضايا المنطقة، تقود السعودية سياسات ما فوق الجامعة العربية، في حين نلاحظ أن الجامعة العربية تدرس وتتشاور حول إنشاء قوة عربية مشتركة بعد طلب الولايات المتحدة من الجامعة العربية إنشاء قوات عربية تتولى قتال داعش، فيما سبقت الجامعة العربية وقامت السعودية بعاصفة الحزم بعد تشكيل تحالفات معقدة، وتمكنت دبلوماسيتها النشطة من إصدار قرار أممي في اليمن يؤيد عملياتها الشرعية، لشل اليد الإيرانية التي تعبث بالأمن العربي وبخاصة الخليجي السعودي، وهي مستمرة في شلها في بقية المنطقة العربية في سوريا والعراق ولبنان بعدما تمكنت من شل اليد الإيرانية في السودان ومصر، وطهرت منطقة البحر الأحمر من التواجد الإيراني، خصوصا بعدما استولت دول التحالف على جزيرة حنيش الكبرى في البحر الأحمر، وهي إحدى أكبر الجزر اليمنية التي كانت تتخذها إيران مرفأ وقاعدة لدعم الحوثيين بالأسلحة والخدمات اللوجستية.

العراق لن يستطيع الاستعانة بروسيا ولا إيران في مواجهة تركيا بعدما رفضت تركيا سحب جنودها من شمال العراق، لكن يمكن أن يلجأ العراق إلى مجلس الأمن والجامعة العربية، وفي مجلس الأمن يمكن أن تستخدم الولايات المتحدة الفيتو، وكذلك يمكن أن تستخدم السعودية أيضا الفيتو في الجامعة العربية التي لم يعد لها وجود بعد عاصفة الحزم، لذلك نجد أن فرق الموت الشيعية الإرهابية المماثلة لداعش تهدد باستهداف مصالح تركيا في العراق.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق