عودة تركيا للجوار العربي من دون زعامة

صدمات سياسية في عام 2016 ستشكل نقاط تحول أساسية، حيث أن الأحداث الجغرافية السياسية الأكثر أهمية في عام 2016، لكن النقاد والساسة قبل الانقلاب العسكري في تركيا لم يتحدثوا عن تلك التحولات وتوقع ما لا يمكن توقعه.

في عام 2014 لم يكن هناك أي ناقد سياسي يتوقع أن تضم روسيا شبه جزيرة القرم، أو أن تظهر داعش وتحتل الموصل ثاني أكبر مدن العراق التي يتحمل المسؤولية أمريكا التي احتلت العراق، وإيران الذي تسلمته من أمريكا، والعرب الذين ظلوا عاجزين عن الدفاع عن أمنهم.

إطلاق يد الجميع في سوريا في عام 2015 نتج عنه أكثر من مليون مهاجر إلى ألمانيا بشكل خاص، مما أدخل العالم مرة أخرى نحو ارتداد الهجرة الجماعية إلى أوربا بعد أن سكن الأوربيون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أرجاء العالم، الآن العالم بدوره يتطلع لأن يسكن في أوربا خصوصا وأن أوربا هي جزء من الكتلة الأرضية الأوراسية، ولا تفصل الاتحاد الأوربي عن أفريقيا إلا ممرات ضيقة من البحر المتوسط.

لذلك يتهم الاتحاد الأوربي جهود تركيا لوقف تدفق المهاجرين بأنها غير كافية، وتحولت تركيا في تلك الأزمة هي من تضغط على أوربا وتحاول أوربا الاستجابة لمطالب تركيا، حيث استطاعت تركيا أن تحول كل لاجئ سوري من عبء متوقع إلى إضافة في كيانه، حيث حكومة أردوغان تجيد ابتزاز أوربا حول طاولة المفاوضات ردا وانتقاما من الاتحاد الأوربي الذي يتلاعب بمفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي، في المقابل تستغل الولايات المتحدة هذه الظروف وأقنعت تركيا بأن تكون بديلا عن روسيا في تصدير الغاز من الشرق الأوسط إلى أوربا، لكن الولايات المتحدة تلعب في نفس الوقت بورقة الأكراد التي تمس الأمن القومي التركي بعدما رفضت تركيا مقاتلة داعش ما لم تنتهي المشكلة الأساسية وهو النظام السوري الذي يستخدم الجيش ضد شعبه وهي تتطابق مع الرؤية السعودية فلم تجد أمريكا لمقاتلة داعش سوى الأكراد مقابل أن يحصلوا على كيان مستقل وهو ما يهدد الأمن التركي وحتى الإقليمي ويهدد الدولة الوطنية.

الولايات المتحدة لم تنظر إلا إلى مصالحها ومصالحها مع روسيا في سوريا، ورفضت المناطق الآمنة في سوريا حتى تحميهم من الهجرة إلى أوربا، ولم تحميهم من السلاح الكيماوي، وحتى السلاح منعته عن المعارضة لحماية أنفسهم، وتركت جميع الأيدي تعبث في سوريا، حتى أن السعودية طلبت إرسال قوات لمقاتلة داعش في سوريا ردت على السعودية بأن طلبها سيدرس، بعدما لاحظت السعودية أن أمريكا تكتف بقتل القادة فقط وتستخدم داعش ورقة ضد الجميع بحضور روسي لتخديرها مقابل تعزيز الأمن في شرق أوربا ونصب الصواريخ البالستية في بولندا ودول بحر البلطيق الذي جعل دول في أوربا تحتج على أمريكا مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا بأن نصب مثل تلك الصواريخ يوتر العلاقة الأوربية الروسية.

أفرغت منطقة الشرق الأوسط من الزعامات التقليدية من دون إيجاد البدائل، بينما كانت البدائل هي الحروب المذهبية والطائفية، وعندما أدركت تركيا هي الأخرى من أن إسقاط الطائرة الروسية التي اخترقت الأجواء التركية لم تقف الولايات المتحدة مع تركيا بل سايرت روسيا في سوريا على حساب تركيا، واستخدمت الورقة الكردية ضد تركيا لتلبية رغبات روسيا، اكتشفت تركيا بأن الولايات المتحدة غدرت بها وهي تحرص على مصالحها، لذلك استدارت تركيا شرقا وأعادت العلاقات مع روسيا بعدما ضبطت الطيارين اللذين أسقطا الطائرة الروسية وأحدهما تابع للكيان الموازي غولن، مما وجدت روسيا الفرصة مواتية، واستعجلت تطبيع العلاقات قبل أن تعيق الولايات المتحدة تلك العلاقة الاستراتيجية.

في المقابل ستكون العلاقات التركية الأمريكية مرشحة للتصاعد بعد محاولة الانقلاب الفاشلة من أجل أن تضغط تركيا على الولايات المتحدة بتسليم غولن أو ترحيله، بينما تطالب أمريكا تركيا بتقديم أدلة ملموسة وليس فقط مزاعم حول تورط الداعية التركي المقيم في المنفى في بنسلفانيا الأميركية تورطه في المحاولة الانقلابية، بل اتجهت الولايات المتحدة بعدما وصلت العلاقات المتوترة أوجها بتهديد تركيا بسحب عضويتها من الناتو بعد تلميحات وتصريحات باتهام الولايات المتحدة بأنها كانت وراء هذا الانقلاب الفاشل.

ما زالت تداعيات الحركة الانقلابية الفاشلة في تركيا تحظى باهتمام دولي واسع على صعيد آخر تتجه الأنظار إلى مدى إمكانية تأثير ما حصل في تركيا على علاقاتها الخارجية مع دول الشرق الأوسط خاصة أن أنقرة قبل وقت قصير من المحاولة الانقلابية في سياسة خارجية جديدة اعتمدت خلالها الانفتاح وتطبيع العلاقات مع دول كانت تجمعها بها علاقات متوترة.

هناك تغيرات ستطرأ على علاقات تركيا الخارجية خصوصا بعد التصريحات المتبادلة بين مسؤولين أتراك وأوربيين وأمريكيين، لكن تبقى القضية السورية الأبرز التي لن تغير المواقف التركية بسبب تأثيرها على الداخل التركي وهو ما تدركه روسيا وإسرائيل بعدما أقامت تركيا العلاقات معهما قبل الانقلاب الفاشل، رغم تباين المواقف مع روسيا وإسرائيل وحتى إيران، ستشهد العلاقات مزيدا من تعزيز العلاقات خصوصا وأن إيران تعاني صعوبات في علاقاتها مع العالم وأنها تجدها فرصة في ضغط تركيا على السعودية التي تقود مشهد إقليمي ودولي لتفكيك نفوذ إيران في المنطقة.

لكن العلاقة مع مصر هي الوحيدة التي تلقت ضربة بعد الانقلاب الفاشل بعد التقارب المحتمل بين البلدين قبل الانقلاب بسبب اعتقاد تركيا اعتراض مصر على فقرة في بيان مجلس الأمن بشأن التنديد بمحاولة الانقلاب في تركيا رغم ان مصر ترفض مثل هذا الاتهام وهي لعبة أتقنها المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة لتوريط مصر وضمان بقاء الانقسام الإقليمي في المنطقة، لكن يجب أن تدرك تركيا أن مصر ليست دولة دائمة العضوية بل هي دولة ذات عضوية غير دائمة.

أي أن مشهد تحسين العلاقات بين تركيا ومصر يشهد انتكاسات بسبب الشروط المتبادلة بين الطرفين والتي يصعب تحقيقها في معادلة الحكم القائم في تركيا، لكن كذلك وجدت مصر فرصتها في توجيه الضربة القاضية لأردوغان انتقاما من مواقفه المتشددة تجاه الحكم في مصر، واستضافة قيادات الإخوان في تركيا ما تعتبره تدخلا في شؤونها الخاصة أي أن المنطقة العربية تعاني تدخلات إيرانية وتركية بصرف النظر عن المواقف والرؤى المختلفة لكنه يعارض الأعراف الدبلوماسية، كما لا يمكن أن تقبل تركيا استضافة مصر جماعة الداعية غولن.

وكان أكثر الملفات التي تأثرت بما حدث في تركيا ملف العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوربي وفي المقدمة مسألة انضمام تركيا للاتحاد الأوربي، وعلى رأسها ملف اللاجئين والتعاون فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب بعدما تصاعدت مطالبة الاتحاد الأوربي تركيا بالالتزام بالقانون فيما يتعلق باعتقالات وإقالات ما بعد الانقلاب، بل وصلت إلى درجة التشكيك في وجود قوائم معدة سلفا من جانب أنقرة لتطهير المؤسسات في تركيا كما أعلن مفوض شؤون الجوار والتوسع في الاتحاد الأوربي يوهانس هان.

يبدو أن الحالمين من العرب الذين بحثوا عن مناصرة قائد رمز سبق أن جربوا حسن نصر الله ومن قبل غيره كجمال عبد الناصر، لكن سقط هذا القناع ولا يزال هناك قلة يهللون لرمز من الرموز بمبالغة وتعصب كمن لا يزال يرفع صور الخميني في العراق وصور أردوغان ونصر الله، لكن كثيرا منهم انقلبوا عليهم بعدما عرفوا حقيقة كل منهم، خصوصا مشروع الخميني ومشروع حسن نصر الله بعدما أدركوا أن جميع الرموز لم يتمكنوا من تحرير فلسطين التي كانت إحدى وعودهم.

بينما كان الخميني يخفي مشروعه الحقيقي تحت مطلب تحرير فلسطين، بل ظهرت أزمات جديدة في المنطقة خصوصا خطر المشروع الفارسي الذي لا يقل خطرا عن إسرائيل بل أكثر خطرا بسبب أنه يحتمي بالإسلام، لذلك ليس من السهل في الوقت الحاضر الانجرار وراء أي رمز من الرموز حتى ولو كان أردوغان، رغم أنه رئيس منتخب وحقق لتركيا نجاحات اقتصادية ونقل تركيا من المركز 116 إلى المركز ال 17 وإسلامه معتدل يؤمن بأن العلمانية ليست كلها شر بينما أتباعه العرب من الإخوان المسلمين يرون العلمانية كلها شر بل وكفر، بينما الإخوان المسلمين العرب هم لا يختلفون عن مشروع ولاية الفقيه بأن لديهم مرشد، بينما أردوغان ليس لديه مرشد بل خالف أستاذه أربكان، واختلف مع زملائه عبد الله غول وداود أغلو.

و بعدما أصبحت أزمات المنطقة العربية مركبة في سوريا والعراق وليبيا واليمن ما يعني أن مصر هي الوحيدة التي استطاعت لملمة أمنها والدفاع عنه ما لم تستطيع بقية الدول الأخرى مهما قيل عن شكل استرداد أمنها، إلى جانب تونس التي استطاعت هي الأخرى تجاوز أزمتها، واستطاع الإخوان في تونس التعايش مع الواقع الجديد وهو ما رفضه الإخوان في مصر.

في المقابل استطاعت السعودية الدفاع عن البحرين والآن الدفاع عن اليمن، لكن تواجه السعودية عقبات أمام استعادة الأمن في اليمن وهي مصممة على الدفاع عن أمن اليمن باعتباره أمن خليجي ودولة جاره يعتبر أمنه جزء من أمن السعودية ودول الخليج الأخرى، كما استطاعت السعودية تشكيل تحالف عربي لمواجهة الأزمة في اليمن والحفاظ على أمن القرن الأفريقي وأمن باب المندب والبحر الأحمر وبالفعل نجحت، والآن تقود تحالف عسكري إسلامي، ما يعني أنها نجحت في محاصرة إيران، وحصلت على تأييد دولي في مجابهة النفوذ الإيراني، ما يعني أن عودة تركيا إلى الجوار العربي بزعامة السعودية.

كما أن الانقلاب التركي سيعجل من تشكيل القوات العربية المشتركة لمواجهة التهديدات التي تواجه المنطقة خصوصا وأن الأزمات في سوريا تزداد تعقيدا نتيجة عدم توافق أميركي روسي، حيث ترفض الولايات المتحدة التنازل عن وضع صواريخ بالستية في بولندا ودول البلطيق، وهو ما ترفضه روسيا وترفض التنازل عن استمرارها في دعم الأسد، وهي خطوة تصب في صالح إيران، ما يعني أن المنطقة بحاجة إلى تشكيل تحالفات إقليمية أقوى لتحييد التواجد الروسي، خصوصا وأن السعودية رغم إقامة شراكات استراتيجية مع روسيا لكنها لم تخدم الاقتصاد الروسي المنهار بتخفيض سقف إنتاج البترول، بل هي تنافس روسيا في تصدير البترول إلى الصين وانتزعت المركز الأول من روسيا.

لذلك عودة تركيا إلى الجوار العربي سيكون من دون شروط، ومن دون زعامة بعدما أثبتت السعودية بأنها الحصن المنيع الذي يمكن أن تدافع عن مصالح المنطقة، ولا يمكن أن تتنازل السعودية عن مصر كدولة محورية التي لا تقل أهمية عن دولة تركيا كدولة محورية هي الأخرى، حيث تعاني المنطقة حربا مذهبية فرضتها إيران بعد تصاعد نفوذها عبر عدد من البوابات من العراق ولبنان واليمن وأرادت خطف واستثمار المقاومة وإشراك أذرعها كحرب بالوكالة في سوريا وفي اليمن ولبنان والعراق.

تريد إيران أن تخلق واقعا مذهبيا في المنطقة، بينما تريد السعودية تثبيت واقع الدولة الوطنية التي يتعايش تحت ظلها الجميع وهي تتقاطع مع القوانين والديمقراطية العالمية، وتتقاطع مع مطالب الدول الإقليمية سواء تركيا أو العراق أو إيران بأن يكون الأكراد وبقية الكيانات الأخرى جزء لا يتجزأ من كيان الدولة الوطنية، بدلا من التجزئة التي تهدد ويرفضها الجميع، لكن ما تمارسه إيران مخالف لرؤية الدولة الوطنية، وهي تؤسس لبقية الكيانات بإتباع مشروع في تشكيل كيانات منفصلة، والبعض يدعو إلى اتحادات فيدرالية وهي دعوات لن تقبل بها الدول الإقليمية الرئيسية الكبرى.

لذلك ترفض السعودية الروابط الأيديولوجية سواء مشروع ولاية الفقيه أو مشروع المرشد الأعلى، خصوصا وأن أردوغان دافع عن الديمقراطية بالتحالف مع جماعات المعارضة التركية، ولم يدافع عن مشروع الخلافة، ولا يوجد فراغ زعامي حتى يتعلق بعض الحالمين بقشة زعامة أردوغان، بينما هو الذي بحاجة إلى دعم الدول العربية وبشكل خاص كالسعودية كدولة مؤثرة وتمتلك حيوية خليجية وعربية ودولية، وتمتلك أولويات استراتيجية ضاغطة في البحرين واليمن، وهي الدولة التي تلتقي عندها بقية الدول العربية بسبب أن لديها قدرة على موازنة السياسات الاستراتيجية، وهي تمثل المسلمين بجميع فئاتهم سنة وشيعة، وهي ترفض جميع المشاريع الحزبية التي تقسم الأمة وتقتات عليها بقية المشاريع الأخرى بما فيها معادلة الحرب الأميركية في سوريا.

هناك البعض يحلم باستعارة التاريخ العثماني بعد الانكفاء العربي التركي الذي سمح بتمدد المشروع الفارسي خليفة الصفويين في المنطقة العربية بعودة سليمان القانوني لهزيمة الصفويين الذي استطاع هزيمة الصفويين في معركة جالديران عام 1514 وقضى على عاصمة الدولة الصفوية تبريز التي أنهت ثورات العلويين داخل الدولة العثمانية، حيث يتكرر التاريخ في الانقلاب الفاشل الذي تزعمه علوي.

ويحلم آخرون بعودة سليم الأول الذي هزم المماليك الذين تحالفوا مع الدولة الصفوية في معركة مرج دابق عام 1516 فتوحدت الجبهات المصرية والشامية مع العثمانيين في مواجهة الدولة الصفوية، وهو الدور الذي تقوم به السعودية اليوم بديلا عن الدولة العثمانية لأن أردوغان لا يمتلك ما تمتلكه السعودية، بسبب أن السعودية تحمي الحرمين الشريفين وتجد تأييدا إسلاميا عالميا مثلما كانت الدولة العثمانية التي كانت تحمي الحرمين الشريفين وتجد في ذلك الوقت تأييدا إسلاميا وتمتلك من المقومات يمكنها من تشكيل التحالفات، لذلك تحرص السعودية على تشكيل تحالف تركي مصري لمواجهة المشروع الفارسي، فعاطفة الحالمين بقشة الزعامة الأردوغانية هي غير واقعية.

 

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محجوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق