سعود الفيصل رحل ويبقى إرثه مضيئاً

رحل الأمير سعود الفيصل يوم الخميس 9/7/2015 ، فهو رجل سياسة وتنمية، وهو ما جعله وزير خارجية بالغ التأثير، بل وصفته نيويورك تايمز بالقوة الهادئة في الشرق الأوسط، وعدته لاعبا أساسيا في ظل حكم أربعة ملوك سعوديين، وحلقة وصل في الحوار مع سبعة من الرؤساء الأميركيين.

الإعلام الغربي يهتم بوفاة الوزير لأنه بالغ التأثير ليس في القرار السعودي، بل في القرار الدولي، ويتوقف على تاريخه الحافل، خصوصا وأن الإعلام الغربي يصفه بالحكيم والإنساني والمتواضع والرزين.

ووصفت صحيفة واشنطن بوست بأن سعود الفيصل كان رمز الدبلوماسية في الشرق الأوسط، وهناك رؤساء ودبلوماسيون أقروا بمكانته، فأوباما يعترف بأن أجيالا من قادة الولايات المتحدة ودبلوماسييها استفادوا من نظراته العميقة للأمور، وقوة شخصيته، وحنكته، وقدراته الدبلوماسية، بينما يعترف كيري وزير خارجية أمريكا، بأنه استفاد من استشاراته.

أشرف سعود الفيصل على صعود السعودية كلاعب دبلوماسي أساسي في الشؤون الدولية، مواجها أزمة بعد أخرى، ومركزا على علاقة بلده مع بلدان العالم، وله دور رئيسي لعبه في النزاعات الإقليمية، بكونه محور العلاقات الدولية في الشرق الأوسط طيلة الفترة الطويلة التي قضاها في منصبه.

سيبقى سعود الفيصل في ذاكرة الدبلوماسية العربية والعالمية، وستسجل أدواره الكبيرة من حروف ذهبية في تاريخ الدبلوماسية، ورغم أنه ترك الدبلوماسية في مرحلة من تصاعد التوترات الإقليمية التي أبرزها الدور الذي تلعبه السعودية في العمليات العسكرية في مسرحين مختلفين: الأول في اليمن والثاني ضد تنظيم داعش في العراق وسوريا، لكن مدرسته الدبلوماسية المتفردة التي أسسها هي من تدير مثل تلك الملفات.

كان فارس الدبلوماسية العربية والإسلامية في الدفاع عن قضايا الأمتين، مثلما كان له دور في وقف الحرب اللبنانية، وقدرته الفائقة في إدارة حروب الخليج الثلاثة، وفارس الدبلوماسية العربية المساندة للقاهرة، فهو رجل المواقف الصلبة في الدفاع عن قضايا الأمة.

فكما هو رجل المواقف الصلبة، فهو كذلك رجل السلام، وصمام التوازنات السياسية، بل كان الجدار الذي صد المؤامرات ضد البحرين، ورافع راية الدفاع عن سيادة شعب البحرين، ووحدته، لأنها اعتبرها خطا أحمرا لسيادة السعودية قبل أن تكون للسيادة البحرينية، ونفس الدبلوماسية السعودية التي مارسها في البحرين يتم التعامل بها مع الوضع في اليمن باعتبارها خطا احمرا يمس السيادة السعودية قبل السيادة اليمنية.

دبلوماسية سعود الفيصل جعلت الإيرانيين يصابون بهستريا، رغم الظروف الإقليمية والدولية التي خدمتهم، وكيف نجح سعود الفيصل في كشف محور الممانعة والمقاومة التي كانت إيران تخفي أجندتها الحقيقية من خلال هذا المحور، وتحول الآن إلى محور إرهابي، وهو أول من نبه لخطر هذا المحور، وتضليله الأمة بمن فيهم علماء الأمة الإسلامية خصوصا عندما حذر الأمير سعود الفيصل في عام 2006 من خطر هذا المحور في ذروة زخم تأييد هذا الحزب الذي تلقاه من كافة المسلمين سنة قبل الشيعة.

يظل سعود الفيصل ثروة وطنية كبيرة، ونافذة مضيئة، وبوابة رئيسية لعبور الغرب إلى الخليج والعكس، كان يمثل في نظر العواصم الكبرى أحد أعمدة هيكل الدبلوماسية الدولية، ما جعله يكتسب لقب عميد الدبلوماسية الدولية، لم يكن فقط وزير خارجية السعودية، بل وزير خارجية الأمتين العربية والإسلامية، يحق له أن يترك إرثا مضيئا، لأنه كان  يمثل هرما من أهرامات الأصالة، ومدرسة في السياسة الرصينة والقوية.

 يبقى مدرسة، وراية خفاقة ترفرف فوق أسوار قلاع العرب والمسلمين، بحاجة إلى تأسيس أكاديميات  تمثل مرجعيات للدبلوماسية التي تعتمد الوطنية والعروبة والإسلام، صنع من خلال هذه الدبلوماسية تاريخا مجيدا للسعودية، ولقضايا الأمتين العربية والإسلامية، يمكن أن ترجع إليها الشعوب العربية والعالمية في حل أزماتها من أجل ترسيخ التفاهم بين الشرق والغرب.

اتسم سعود الفيصل بالصبر الدبلوماسي المعتمد على التخطيط الإستراتيجي على غرار لعبة الشطرنج التي تحتاج إلى وقت قد يطول فترات طويلة لتنفيذ استراتيجيات جيوسياسية، أو ينتظر تهيئة ظروف سياسية مواتية، خصوصا فيما يتعلق بمواجهة العربدة الإيرانية، وخروج داعش من رحم الأزمتين السورية والعراقية نتيجة ممارسات المالكي والمليشيات الشيعية واستيلاء داعش على مساحات واسعة.

تركزت مساعيه نحو حل عقدة التعامي الأميركي عن مظالم الشعب السوري، ومحاولة تفكيك الانحياز الروسي مع عربدة إيران في المنطقة وخصوصا في سوريا.

براعته مكنته من صنع تاريخ بارع في هندسة العلاقات بين أعضاء الأسرة الخليجية التي فككتها ثورات الربيع العربي وحركات الإسلام السياسي، وهندسة العلاقات بين الأسرة الخليجية وخصوصا مع مصر، لتشكيل إرادة عربية جديدة في زمن الفوضى الصعب، قادت إلى عاصفة الحزم، وستستكمل بتشكيل قوة عربية مشتركة، يمكن أن تفتح آفاقا جديدة أمام العرب، لترتيب أوراق المنطقة، واستعادة التوازن المفقود، نتيجة احتلال أمريكا للعراق، والثورات العربية التي ضربت المنطقة العربية.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق