ربيع العرب.. جدران لا جسور

مؤلم ومؤسف حال العالم العربي في حاضرات أيامنا، فبعد سبعة عقود تقريبًا من التحرر من ربقة الاستعمار الغربي، والحلم في إزالة الحواجز الصناعية التي تركها، والتطلع إلى كيان عربي وحدوي، ها نحن نرى الجدران تقوم، والجسور تختفي من الجغرافيا العربية المثخنة بجراحات التاريخ المعاصر.
هل كان لأحد أن يتصور أن يأتي اليوم الذي ترتفع فيه جدران بين الدول العربية وبعضها البعض؟
منطلق التساؤل السابق ولا شك هو الجدار الأمني الذي بدأت تونس في إنشائه على حدودها مع ليبيا والتي تمتد على نحو 500 كيلومتر كانت على مر التاريخ بوابات للتعاون التجاري والتلاقي الإنساني لا سيما بالنسبة لسكان المناطق القاحلة بين البلدين.
المواصفات الأولية للجدار الذي يبلغ طوله حتى الآن 220 كيلومترا مثيرة جدا وتذكر بالجدران التي تقيمها الدول المتحاربة وقد كان خط بارليف ومن قبله خط «ماجنو» في فرنسا مثالين عليها، إذ يتكون من مجموعة من الخنادق والحواجز الترابية، وتعززه منظومة مراقبة إلكترونية وجوية ويتخلل الخندق عدد من الهضاب والجبال والتي هي بحد ذاتها تمثل حاجزًا عازلاً… لماذا تقدم تونس على إقامة الجدران عوضًا عن بناء الجسور؟ حكمًا ليس المقصود هو إظهار ضرب من ضروب الكراهية للشعب الليبي، بل حماية للذات التونسية من مخاطر الإرهاب الأسود القادم من ليبيا، التي تحولت إلى مرتع وموئل لكثير من الجماعات الداعشية والقاعدية ولصنوف وأشكال ممن يسمون أنفسهم بـ «المجاهدين». تذهب الرؤى الرسمية التونسية إلى أن الجدار المقصود يمثل حلاً عمليًا لتخفيف حدة المخاطر الإرهابية القادمة من الجارة الليبية بنسبة 70 في المائة ويؤكدون أنه من خلاله سيتقلص الإرهاب، وسيندحر عن تونس إذا تم منع دخول السلاح والأفراد من ليبيا.
ذات مرة من سبعينات القرن المنصرم قاد العقيد القذافي بنفسه البلدوزرات ومضى ناحية الحدود الغربية لمصر مع ليبيا وأزال البوابات من على الجانب الليبي معتبرًا أنه ما من حواجز يمكن أن تعوق تلاقي العرب على الأرض العربية وأنه حان الوقت لإزالة معالم الماضي الاستعماري.
لم يكن تصرف القذافي بالطبع عقلانيًا ولا دوليًا، غير أنه بحال من الأحوال كان يعكس توجهًا وحدويًا وإن فقد «خريطة الطريق» السديدة التي تقود إلى تلك الوحدة.
يمكن للمرء أن يجد عذرًا واضحًا للتونسيين رغم اعتراض الليبيين، فالمحبة المترتبة تبدأ بالذات والقاعدة الذهبية في التعاملات «ما لا تود أن يفعل الناس معك لا تفعله أنت معهم».
فهل كان الليبيون سيقبلون بالأمر لو كان المشهد قراءة في المعكوس، بمعنى أن تكون تونس هي المهدد لأمنهم؟
لقد دفع التونسيون ثمنًا باهظًا للإرهاب الأعمى في الأشهر الأخيرة وكأن القدر يحمل بطريقة، ما عشوائية أو موضوعية، للبلد الذي انفجرت منه وفيه ثورات ما عرف بالربيع العربي، رسالة مفادها: «هذا هو حصاد الربيع المشؤوم… جسور لا جدران».
يلقي جدار تونس بظلال كثيفة على جدران أخرى يمكن أن تنتصب عما قريب، بل وربما يعجل بها النسق التونسي، وأقرب دولة مرشحة بالفعل هي مصر، حيث عانت ولا تزال من حدودها الغربية مع ليبيا، والتي تسرب منها إرهابيون كثر وأسالوا دماء مصرية ذكية، حتى لو لم يذهب المصريون في طريق بناء جدران إسمنتية، لا سيما أن الحديث جار عن صفقة معدات إلكترونية مع البنتاغون هدفها حماية الحدود المصرية، وهو حق لمصر لا أحد يقدر أو يستطيع إنكاره عليها، وفي كل الأحوال هو جدار من نوع آخر، جدار إلكتروني، غير أن الهدف وفي كل الأحوال واحد والمحصلة النهائية متشابهة.
من سيقيم جدرانًا أخرى؟
ليقرأ القارئ تصريحات الجنرال الأميركي جوزيف دانفورد الأخيرة، وهو المرشح لرئاسة هيئة أركان الجيوش الأميركية، خلفًا للجنرال مارتن ديمبسي، فخلال جلسة استماع أخيرة أمام الكونغرس أشار دانفورد إلى أن العراق سيقسم إلى دولتين…
الكارثة في حديث الرجل هو تأكيده على أنهما ستكونان دولة شيعية ودولة كردية، وأنه من الصعب انقسام العراق إلى ثلاث دول، بمعنى عدم ظهور دولة سنية على السطح، ومرد ذلك عنده أن السنة ليس لهم مستقبل محدد يعتمدون عليه.
هل ننتظر في المدى القريب أو المتوسط إعلانات عراقية عن جدران جديدة تفصل الكيانات الوليدة التي يتحدث عنها دانفورد؟
الوضع في سوريا واليمن ومن قبل في السودان، وهو حادث بلا شك في ليبيا المقسمة إلى ثلاثة تجمعات مناطقية، يؤشر على أن جدرانًا ما قامت في العقول والأفئدة العربية، جدرانًا من البشر لا الحجر، وهنا الكارثة لا الحادثة.
لم يكن بين العرب ما كان بين الأوروبيين من أنهار دماء وعداوات، وها هم يتجاوزونها ويحرصون على عدم العودة إلى ما فات أو تفكيك الاتحاد والحفاظ على أصغر دوله من الخروج عن الجماعة الأوروبية كما في الحالة اليونانية..
أيحق لنا التساؤل عن «أي لعنة سيزيفية مصابة بها هذه الأمة»؟

نقلاً عن الشرق الأوسط

إميل أمين

 

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق