“داعش الشيعي” والعقل الثأري المدمر

الحسين يقتل من جديد بقتل أتباعه على يد مرجعياتهم، والخميني كان يوزع مفاتيح الجنة على المقاتلين الذاهبين إلى قتال المسلمين العراقيين.

خرج الحسين مستنفراً الناس لرد الظلم، وتولي الأمر، مؤمناً أن هذا الخروج فيه خيرٌ للناس، فقتل في سبيل قناعاته، وتخلت عنه شيعته، وترك وحيداً يطلب الماء لابنه الرضيع، رغم أنه قال نقلاً عن أبيه إنّ ابنَ الكُوّا الخارجي سأل علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، تسلّم على مذنب هذه الأمّة؟ فقال الإمام علي: “يراه الله عزّ وجل للتوحيد أهلاً، ولا تراه للسلام عليه أهلاً؟”، فكان وعي أهل البيت أوسع من الثأر والانتقام، ولكن الورثة غيروا القاعدة، وأعملوا الحقد وسيلة لدفع الناس إلى الاحتراب، وقتل بعضهم البعض، وتدمير البلاد والعباد، حتى صار الإسلام إسلاميين، إسلامٌ قاتل وآخر مقتول، فكانت أولى ضحايا هذه المجزرة التاريخية الفكرية ملايين المؤمنين بفكر الحسين ومظلومية الحسين.

وتنامى الحقد على السنّة لدى جمهور من العلماء والشارع الشيعي، رغم أن كثيرين من كبار علماء السنّة كانوا مع ثورة الأئمة من أهل البيت ضد الاستبداد، فقد عوقب إمام المذهب الحنفي أبو حنيفة النعمان بن ثابت من قبل الخليفة المنصور العباسي بجلده ثمانين سوطا لأنه أفتى بالخروج مع إبراهيم أخي محمد ذو النفس الزكية، محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، في ثورته على ظلم العباسيين.

الشيعة طاقة تغيير كل مرة

ولطالما كان الشيعة هم محرك التغيير في التاريخ العربي والإسلامي، فبحراكهم تحركت السيادة، وتزحزح الثابت، وباجتهادهم تحرر العقل من النقل، وكان منهم العلماء والمفكرون والقادة، وشركاء الحياة في كل زمان، رغم أنهم في كل مرة كانوا يستعملون من قبل الأقوياء لإحداث التغيير، دون أن يكون لهم حصة من ثماره فيما بعد، كما في أول العهد في انتفاضة العباسيين ضد الدولة الأموية، حين أججوا المناخ كله من أجل أهل البيت وحقهم، وحين دمروا” دمشق” وأزاحوا الأمويين، بدأوا بمطاردة أئمة الشيعة وأتباعهم، بعد أن كانوا جنودهم ووقود حربهم، ولم ينس لهم الشيعة هذا، فكان أول ما فعلوه بعد احتلال بغداد على يد الجيوش الأميركية والبريطانية، اقتلاع رأس أبي جعفر المنصور، وتغيير ملامح بغداد والعراق العباسية، وتكرر الأمر مع ابن العلقمي الذي تلقى وعوداً من هولاكو بتعزيز مكانته، وهو الوزير الأول لدى المستعصم العباسي، الذي ألقى إليه زمام أموره، وبعد تدمير بغداد وقتل آلاف المدنيين، أعطاه هولاكو الوزارة مدةً قصيرة، ولكنه خلعه بعد حين، وقد أهين ابن العلقمي على أيدي التتار، بعد دخولهم، وقد شوهد يركب حمارا فنظرت له امرأة وقالت له: ” إيهٍ يا ابن العلقمي، أهكذا كان بنو العباس يعاملونك؟”.

 

إيران شيعية أم سنية؟

كان سكان إيران يتبعون المذهبين السنيين الشافعي والحنفي، قبل أن يكتشف الصفويون الأمر، والماكينة التاريخية التي يمكن بها تحقيق المشروع السياسي الخاص بهم، بأيدي الشيعة، والصفويون هم أسرة تركمانية أسست الطريقة الصفوية في مدينة أردبيل في شمال شرق إيران، اشتقت اسمها من اسم جدها المتصوف السني الشافعي الشيخ صفي الدين أردبيلي الذي عاش حتى العام 1334 ونجح أحفاده ومنهم الشيخ جنيد وابنه الشيخ حيدر في نشر المذهب الشيعي بعدما تشيعوا لأهداف سياسية، وفي العام1500 والأعوام التي تلته، اقتحم أحد الأحفاد وهو إسماعيل الصفوي الأول أذربيجان وأرمينيا وغرب إيران ثم سيطر على خراسان الكبرى وهرات وأسس سلالة الصفويين واستطاع في الأراضي التي سيطر عليها أن يحول أهلها من المذهب السني إلى المذهب الشيعي.

وقد دوّن بيريس تومي السفير البرتغالي في الصين والذي زار إيران في الفترة من 1511 إلى 1512 في كتاباته شهادته عن ذلك فقال: “إنه (أي إسماعيل) يقوم بإصلاح كنائسنا ويدمر مساجد السنة”، ليتابع إسماعيل الصفوي مجبراً الخطباء في جميع المساجد على شتم الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان والذين يعتبرهم “غاصبين” لحق الخلافة من علي بن أبي طالب وسلب جميع ممتلكات السنة وتم بيعها لتطوير العتبات الشيعية والمؤسسات الدينية كما تمت استضافة علماء الدين الشيعة ليحلوا مكان علماء الدين السنة، مما أثار غضب السلطان العثماني بايزيد الثاني، الذي أرسل إليه معترضاً على تلك الإجراءات، ولكن إسماعيل تابع مشروعه، وأقرّ رسمياً الاحتفال بعيدين، عيد الغدير في26 ذي الحجة من كل عام، وعيد آخر في يوم 9 من ربيع الأول يوم اغتيال الخليفة عمر بن الخطاب وذلك بصنع دمية على شكل عمر ثم يتم لعنها وطعنها وإهانتها ثم إحراقها.

تطورت المدن الدينية الإيرانية مثل قم ومشهد، على حساب تدمير مراكز الشيعة العرب في العراق ولبنان، وتراجع التنمية والحياة المرفهة في بيئاتهم

 

خذلان الصفويين للشيعة

وعندما شعر الشاه نادر بضرورة الرضوخ للعثمانيين أعلن أن إيران دولة “سنيّة”، وفي العام 1736 قبلت جمعية الحكم الصفوية بسياسته الدينية بعودة إيران إلى المذهب السني بذريعة أن التخلي عن التشيع كان “ضرورياً لإبرام اتفاقية سلام مع الدولة العثمانية السنية”، وتخلى الشاه نادر عن التشيع وأسس بدلا من ذلك مدرسة سنية شيعية مختلطة للانضمام إلى مدارس المذاهب السنية الأربعة، وشنق الشاه نادر رجال الدين الشيعة الرئيسيين، واعتمد في جيشه على تجنيد الأفغان، الأكراد، التركمان، والبلوش السنة، فهاجر العديد من العلماء الشيعة إلى العراق واستقروا في النجف وكربلاء.

تشييع عشائر العراق

الفكر الشيعي فكر مفتوح، يقبل الانضواء تحت لوائه، والانخراط في صفوفه، ولذلك فقد كان من السهل دفع كثيرين إلى اعتناق الفكر الشيعي من العامة والخاصة، وقد تشيع العدد الكبير من أبناء العشائر العربية التي استوطنت العراق في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كان من أهمها إنشاء قناة ريٍّ على نهر الفرات لتشجيع البدو على الاستيطان لتوفر الماء والكلأ عندما فتحت قناة “الهندية” التي موّلت بمساهمة قدرها 500 ألف روبية من حسن رضا خان وزير دولة أوذة الشيعية التي ظهرت في شمال الهند في الأعوام 1720 – 1856 وأنجزت قناة الهندية بعد عام 1803 م لتروي الأراضي الممتدة حتى النجف، وكانت عاملاً أساسيا في ازدهار منطقة الفرات الأوسط زراعيا واقتصاديا، وشقت بعد ذلك في أواخر القرن التاسع عشر قناة أخرى موّلت من قبل محمد إسماعيل خان حاكم كرمان الإيراني، ويذكر وداد فاخر أن النصف الثاني من القرن التاسع عشر شهد كثافة كبيرة في عملية التشيع، واستمر هذا الدولاب في تغيير العقائد، بفضل التنمية التي كانت تقدّم لتلك المجتمعات، في ظل إهمال كبير فكري وسياسي واقتصادي من قبل الدول المركزية وعلى رأسها الدولة العثمانية، التي تعاملت مع الشعوب العربية المسلمة السنية على أنهم مجرد رعايا يخضعون بالقوة وليس بالعناية، وكذلك فعلت الحكومات العربية التي نشأت بعد زوال الدولة العثمانية، فكان إفقار المنطقة وتأخير تنميتها، سبباً مباشراً في إقبال كثير من المسلمين السنة على الدخول في التشيع، وفي أحيان كثيرة في أديان أخرى.

 

الخميني واغتيال الثورة المدنية

يقول المؤرخون إن الثورة التي اندلعت في إيران الحديثة مرت بمرحلتين، الأولى دامت من منتصف العام 1977 إلى منتصف العام 1979، وشهدت تحالفاً ما بين الليبراليين واليساريين من جهة والجماعات الدينية من جهة أخرى بهدف إسقاط الشاه، أما المرحلة الثانية، فتسمى بـ “الثورة الخمينية”، وشهدت بروز الشيخ العجوز الذي كان منفياً في باريس وقبلها العراق آية الله الخميني، والذي صعد على ظهور ثورة الشباب في إيران، وبدأ بسياسة “تطهير زعماء الجماعات المعارضة للسلطة الدينية” ، وكما يحصل كل مرة، فقد اندفعت جماهير الشيعة، المؤمنة بضرورة التغيير، والذي يعمل في وعيها “التغيير” كمحرّك ثقافي متأجج دوماً، بغية تطوير أوضاع البلاد والحياة بعمومها، ومضت خلف الخميني، الذي رفع الشعارات ذاتها التي رفعتها الدولة الصفوية، مستنداً إلى عكازين، العنصر الفارسي والتشيّع.

يذهب اليوم دواعش الشيعة الجهاديون المدافعون عن الحسين ومقابر زينب والمزارات، بعد أن يتم إغراؤهم بالأموال وترويعهم بأن خطراً يتهدّد تلك المزارات ويتهدد عقيدتهم، ويعودون قتلى في توابيت إلى بيروت والعراق من أجل بشار الأسد والمالكي وحسن نصرالله وسلطة الخامنئي المطلقة

في حرب العراق وإيران، التي اختلط فيها السيادي بالمذهبي بالاستراتيجي، كان الخميني وآيات الله معه يوزعون مفاتيح الجنة على المقاتلين الذاهبين إلى قتال المسلمين العراقيين، وكانت آلاف الشباب تقبل على الحرب، تنظر إلى العراقي على أنه يزيد وعمر وأبي بكر وخالد بن الوليد، كان العقل الثأري ليس موجهاً فقط إلى “من اغتصب الخلافة” من وجهة نظرهم، بل إلى من اغتصب العراق من أهله الفرس، وقد تكرّر هذا في فتاوى ظهرت في بغداد بعد العام 2003، حين قال بعض علماء الشيعة إن الصلاة محرمة في بغداد، لأنه لا تجوز الصلاة على مال مسروق، وبغداد أرضٌ مغتصبة، تم اغتصابها على يد خليفة مغتصب للخلافة، واحتلالها من أهلها (الفرس).

قم والنجف

على أن الاشتراك في العقيدة، لم يكن سبباً في اشتراك العرب الشيعة العراقيين وغيرهم مع شيعة إيران، التي أرادت أن تتزعم عليهم، وبقي النزاع التاريخي بين مرجعية النجف وقم متقداً طيلة الوقت، ومع مطالبة الشيعة الإيرانيين بالدفن في النجف الأشرف، كي يكون لهم مقامات مقدسة يزورونها، وموافقة مرجعية النجف، توطدت قليلاً تلك العلاقة، لكن الصراع ظل خفياً بين الطرفين.

وجوهر هذا النزاع لم يكن عقائدياً، بقدر ما هو سياسي اقتصادي، تركّز في أموال الزكاة والخُمُس والهيمنة على قرار عموم الشيعة في العالم الذين يقدّر عددهم بنحو 300 مليون شيعي في أنحاء الأرض، تتنازع على قيادتهم حوزة العراق وحوزة إيران، وفي العام 1918 م قدر تقرير بريطاني ما وصل من أموال للنجف من خُمُس وهبات خيرية وأموال الوقف ما مقداره مليون جنيه استرليني، هذا النزاع تم تعزيزه بسبب الموقف المالي للمجتهدين الشيعة ، لهذا فكر شاه إيران رضا بهلوي بإيقاف تدفق الأموال الشرعية الإيرانية للعراق والعمل على بقائها داخل إيران لتعمير العتبات المقدسة وتطويرها في مدينة مشهد الإيرانية حيث مرقد ثامن أئمة أهل البيت علي بن موسى الرضا، وقد كان لهذه السياسة دورها في إضعاف الدور الاقتصادي للمدن الشيعية ككربلاء والنجف.

وقد تطورت المدن الدينية الإيرانية مثل قم ومشهد، وبرز دور المرجعية الإيرانية، وظل الصراع السياسي الاقتصادي ظاهرا للعيان بين مد وجزر، كما حصل حين حاول النظام الايراني ترشيح السيد على الخامنئي يوم وفاة السيد الكوليايكاني عن طريق الاعتماد الكلي على قوة ونفوذ عناصر الحرس الثوري الإيراني الذين علقوا اللافتات على مقراتهم ومقرات الجيش والشرطة صبيحة يوم تشييع جثمان السيد الكوليايكاني قادما من طهران وهي تحمل عبارة “هم مرجعي هم رهبري خامه نئي”، أي “الخامنئي مرجع وقائد”، وكان ظهور دور المرجعية الدينية في النجف من جديد بعد سقوط بغداد العام 2003، عاملا مهما في زيادة الذعر الإيراني من تنامي دور المرجعية في الحوزة العلمية العراقية رغم وجود علي السيستاني في مدينة مشهد الإيرانية، والذي أفتى بعدم جواز مقاومة الاحتلال الأميركي، ولكنه أفتى مؤخراً بوجوب قتال المتمردين من عشائر العراق، بذريعة أن داعش والتكفيريين من بينهم.

 

شوارع الشيعة

من يزور الضاحية الجنوبية في بيروت، أو ضاحية السيدة زينب في دمشق، أو الجيوب الشيعية في الأرياف السورية، أو أزقة العراق، واليمن والقطيف في السعودية، لن يرى شعباً يمتلك من أمره سوى الانقياد خلف تلك الصراعات الكبيرة التي تقع على قمة الهرم العقائدي، رغم محاولات كثيرة بذلها مثقفون شيعة لتمدين الحياة الإنسانية لمجتمعاتهم، وفكّها عن هيكلية التقليد والانصياع التام للمرجعيات، إلا أن تلك المحاولات لم تلاق حاضناً مدنياً من الدول التي عاشوا فيها بل نظرت إليهم تلك الحكومات وتلك النخب بريبة ومارست ضدّهم العزل السياسي والاجتماعي.

تطورت المدن الدينية الإيرانية مثل قم ومشهد، على حساب تدمير مراكز الشيعة العرب في العراق ولبنان، وتراجع التنمية والحياة المرفهة في بيئاتهم

ومع اشتداد أتون الحرب في سوريا، وتدخّل حزب الله اللبناني الذي يتبع المرجعية الإيرانية، ومعه ألوية أبي الفضل العباس رافعين راية زينب والحسين، بحجة إنقاذ المزارات المقدسة، وخلق تنظيم داعش بلعبة مكررة، بعد خلق الولايات المتحدة لتنظيم القاعدة، كعدو مناسب، خلقت المرجعيات الشيعية مناخاً من الكراهية المشتركة ما بين السنة والشيعة، يتحمل الطرفان نخب السنة الثقافية وعلماؤهم ومرجعيات الشيعة ونخبهم، مسؤولية النفخ في نيرانه، ليزج بعشرات الآلاف من الشباب البسطاء السائرين خلف فتاوى المرجعيات، بعد أن انفجرت اللعبة في وجه المالكي وإيران في العراق، وانتفضت العشائر المهمشة والمعزولة، والتي عوملت بعقل ثأري طيلة السنوات العشر الماضية، ومعه البعثيون الذين كان يتوجب أن يتم احتواؤهم بدلاً عن دمغهم بالإرهابيين وتحويلهم إلى خطر مجتمعي قابل للتفجر في كل لحظة.

ويذهب اليوم دواعش الشيعة، الجهاديون المدافعون عن الحسين ومقابر زينب والمزارات، بعد أن يتم إغراؤهم بالأموال وترويعهم بأن خطراً يتهدّد تلك المزارات ويتهدد عقيدتهم، ويعودون قتلى في توابيت إلى بيروت والعراق، تاركين خلفهم أسراً ونساء مرملات وأطفالاً يتامى، لا يعرفون لماذا دفع هؤلاء الشباب حياتهم؟ من أجل أي هدف؟ وما الذي استفادوه ببقاء بشار الأسد وحسن نصرالله وانتصار الملالي في طهران أو دولة الفساد الكبرى في عراق المالكي؟

ومع وجود هذا التوظيف الخطير للفكر الشيعي، إلا أن كثيرين من علماء الشيعة العرب، وبعض مفكري إيران، يقفون ضد هذا المشروع، وينبهون منه، رغم أن الحاضن السني العربي يعود من جديد للتفريط بدورهم، من أمثال العلامة الأمين والعلامة هاني فحص، وصبحي الطفيلي وعطاء الله مهاجراني وآخرين. ولا أحد يعرف إلى ماذا سيؤدي هذا الصراع، في حال انتصرت العمائم السوداء أو تلك البيضاء، وهل سيكون للإنسان الشيعي المنخرط في حروب الكبار رأيٌ في مستقبل الأيام والسنوات في أحواله، وهو يعيش في أغنى الدول نفطياً وزراعياً، وفي أسوأ الأحوال معيشياً وسلمياً، وليكون في كل مرة وقوداً للتغيير دون أن تكون له حصة من الغنيمة.

إبراهيم الجبين

نقلاً عن صحيفة العرب

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق