الملك سلمان وتحديث الدولة السعودية الثالثة

استبق الملك سلمان بن عبد العزيز قمة كامب ديفيد مع أوباما تغييرات جذرية بـ 37 أمرا ملكيا في 94 يوما، لتجديد أوباما للسعودية بأن الولايات المتحدة ملتزمة بصدق بالدفاع عن أمن السعودية وبقية دول الخليج الأخرى، بعدما فشل أوباما في إقناع السعودية قبل توقيع اتفاقية الإطار مع إيران حول الملف النووي، ولكن استبق الملك سلمان توقيع تلك الاتفاقية القيام بعاصفة الحزم في اليمن حتى تكون اتفاقية الإطار الموقعة مجردة من أية مقايضة على حساب دول الخليج.

تتعامل السعودية مع الولايات المتحدة باستراتيجية المقاربة المزدوجة هي نفس الاستراتيجية التي تستخدمها الولايات المتحدة مع السعودية وإيران من أجل التوصل إلى لاتفاق مع إيران للحد من قدرتها على تصنيع سلاح نووي.

 بعد مراقبة السعودية حرص أوباما على التقرب نحو إيران، لكن عاصفة الحزم منعت الولايات المتحدة من إعطاء إيران أي نفوذ مقابل هذه الاتفاقية، بل فرضت السعودية على الولايات المتحدة الوقوف مع عاصفة الحزم لمنع قيام حرب شاملة إقليمية غير محسومة العواقب.

لم تعد السعودية تعتمد على تطمينات تصدر من قبل الولايات المتحدة، وبشكل خاص بعد تصريح أوباما لتوماس فريدمان من صحيفة نيويورك تايمز عندما قال ( أكبر تهديد يواجهونه قد لا يأتي من إيران، وغزوها لهم، بل قد يأتي من داخل بلدانهم).

 بعد هذه القراءة أرسلت دول الخليج ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد إلى واشنطن من أجل اختبار نوايا أوباما في قمة كامب ديفيد بعد هذا التصريح، ومطالبة أوباما بإقرار اتفاقية رسمية للدفاع عن دول مجلس التعاون الخليجي ضد العدوان الخارجي، لكن البيت الأبيض رد بأن عقد اتفاق قانوني لا يعد أمرا واقعيا بالنظر إلى التعقيدات التي سيتعين حلها مثل الحصول على موافقة مجلس الشيوخ، بالإضافة إلى أنها غير ضرورية، لكن اكتفى أوباما بزيادة التطمينات بإرسال قوات على وجه السرعة لمنطقة الخليج إذا لزم الأمر، بالطبع رفض أوباما لمثل تلك الاتفاقية يعني حماية وضمان توقيع إيران اتفاقية الإطار، لأن أي اتفاقية حماية خاصة بدول الخليج ستتذرع إيران بتلك الاتفاقية وترفض التوقيع على اتفاقية الإطار التي توصلت إليها مع الدول 5+1.

بعد نجاح السياسة الخارجية التي قادها الملك سلمان من خلال تحالف خليجي عربي إسلامي دولي بقيادة عاصفة الحزم في اليمن، بالتوازي مع هذا النجاح استكمل الملك سلمان ترتيب مراكز القرار في السعودية، بإجراء تغييرات هامة، شملت ولاية العهد، ولأول مرة تنتقل إلى الجيل الثاني، وكذلك ولاية ولاية العهد، ووزارة الخارجية في سياق استعادة السعودية لدور ريادي وقيادي، بعدما انتقلت الدبلوماسية السعودية من القوة الناعمة إلى القوة الخشنة، تماشيا مع الواقع السياسي التي تعيشه المنطقة.

القرارات التي أصدرها الملك سلمان فجر الأربعاء 29 أبريل 2015 وصفها المراقبون بأنها عاصفة حزم لترتيب البيت السعودية، ولكنها كانت عاصفة هادئه، خصوصا بعدما أتت زيارة الملك سلمان للأمير مقرن في منزله، وهي دلالة على تهدئة النفوس، وهي تؤكد على تماسك نظام الحكم، التي جاءت لتؤكد على سلاسة انتقال الحكم بعد مبايعة هيئة البيعة بالأغلبية في أطول نظام حكم ملكي مستقر في العالم العربي، الذي تمكن من احتواء عواصف الثورات التي ضربت المنطقة العربية وتنتقل السعودية من شراء السلم الاجتماعي إلى خلقه وتثبيته.

التغيرات التي أجراها الملك سلمان هي بمثابة تغيير وجه وتحديث للدولة السعودية الثالثة من أجل أن تعيش السعودية عصرا مغايرا هو عصر الواقعية بعد ضخ دماء شابة في القيادة التي بدأها الملك عبد الله، ولكن استكملها الملك سلمان لتنطلق السعودية في عهدها الجديد ضمن سياسة متناغمة في الداخل والخارج، تقوم على تعزيز المسيرة التنموية، وتأكيد دورها القيادي على المستوى الخليجي والعربي والإسلامي، حتى تكون مؤثرة على المستوى الدولي.

التغييرات تتماشى مع التحديات الداخلية والخارجية، التي تحتاج إلى دماء ومواهب جديدة أكثر انفتاحا وأكثر دراية بما يدور على الساحة العالمية، وهي واعية بشروط اللعبة الاستراتيجية الجديدة في المنطقة، تقود تلك التغييرات إلى بناء دولة مختلفة عن تلك الدولة التي كانت سائدة على مدار عقود طويلة، يطمئن فيها الملك سلمان الداخل والخارج إلى تجاوز السعودية جملة من التحديات الإقليمية.

لا يشك أي متابع للشأن السعودي أن عاصفة الحزم كان لها دور مباشر  في حسم هذه القرارات والتعيينات التي تمت في البيت السعودي، حيث فتحت هذه العاصفة في اليمن أمام دعوات مماثلة في سوريا وليبيا وفي أي منطقة عربية يمكن أن يطالها التهديد، لذلك ليس مستغربا أن توصف تلك القرارات بالعاصفة، وإن كان البعض يقلل من تلك التسمية ويسميها بالعاصفة الهادئة، ويمكن أن تظهر السعودية بأنها تعيش مرحلة ما بعد عاصفة الحزم التي رسمت ملامح السياسة الخارجية والداخلية للسعودية.

ويعتبر الوزير الجديد رأس حربة الدبلوماسية السعودية في واشنطن قائدا للدبلوماسية السعودية المتحدث الفطن ذو الدبلوماسية الهادئة والقادرة في نفس الوقت على التأثير بقوة في مجريات الأحداث، وهو ما يتسق مع الواقع السياسي الذي يجري في المنطقة.

وطالت التغييرات الداخلية كثير من الوزارات منها التعليم والاقتصاد والتخطيط والإسكان والصحة في مواجهة الطموحات الاستراتيجية، واستثمار قدرات وثروات السعودية من أجل تعزيز مكانتها العالمية وجعلها مصادر للقوة.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق