الغرب: الخوف من الإسلام أم من الإرهاب؟

لا يمكن محاكمة التاريخ، لكن التاريخ حاضر، عدة حروب خاضها المسلمون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ضد بيزنطة والفرس (632-732) في العهدين الراشدي والأموي نتج عنه سقوط مملكة فارس وفقدان البيزنطيين لأقاليمهم في الشام وشمال أفريقيا ومصر ونشر الإسلام ونشر اللغة العربية معه ومن ثم ظهور الحضارة الإسلامية الجديدة المتسامحة مع كافة الديانات والشعوب.

بدأ عهد الدولة العباسية في الفترة (750-1258) حتى استغلت أوروبا ضعف الدولة العباسية في أواخر القرن الحادي عشر (1096-1291) فقادت حروب عسكرية بطابع ديني ضد المسلمين تحت شعار الصليب من أجل الدفاع عنه للسيطرة على الأراضي المقدسة بقيادة البابا أرنان الثاني في مجمع كليرموت بفرنسا عام 1095 عندما امتلأت خطبه بالحض على كراهية المسلمين، وتم احتلال القدس من قبل الصليبيين التي حررها صلاح الدين الأيوبي عام 1187 من الصليبيين.

كانت أوربا محاصرة بالإسلام من كافة الجهات من الجنوب منذ عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه، ومن الغرب في الأندلس الدولة الأموية التي فتحها عبد الرحمن الداخل (711-1029) استمرت فيها بعض الإمارات حتى سقوط غرناطة عام 1492، بينما من الشرق بدأت الحروب العثمانية (1299-1923) الأوربية منذ القرن الرابع عشر التي احتلت خلالها الإمبراطورية العثمانية البلقان سريعا، وقد أدت الحروب العثمانية الكرواتية والحروب العثمانية المجرية إلى التوسع العثماني الكبير في أوروبا الوسطى ثم التأكيد في حصار فيينا عام 1529.

لذلك لا تزال أوربا تعتبر نفسها بحيرة وسط بحر الإسلام الذي يكاد أن يبتلعها، وتود أن تحافظ على هويتها مستثمرة انهيار الدولة العثمانية في عام 1914 في زمن الحرب العالمية الأولى.

 وهي فرصتها لاستلام زمام القيادة والعودة مرة أخرى إلى مواصلة تدمير العالم الإسلامي، وخصوصا قلبه العالم العربي، فبدأت بزرع دولة يهودية في فلسطين، وبالفعل غابت البوصلة لدى العرب، وأصبح تركيزهم على تحرير فلسطين في ظل غياب مقومات القوة.

 ظهرت المقاومة الجهادية بديلا عن الحكومات العربية غير القادرة على مواجهة إسرائيل التي تعتمد على الأفكار المتطرفة، تلك الجماعات المتشددة ترفض مهادنة الحكومات العربية الغرب، خصوصا بعدما أدرك العرب حقيقة إسرائيل بأنها محمية أمريكية القوة الجديدة في العالم وأن هدف الغرب أن يدخل العرب في صراع مرير.

منذ أن بزغ الدين الإسلامي الجديد في جزيرة العرب تم التسويق له في ذلك الوقت بأنه دين مزيف تم انتحال شعائره من كتابات العهدين القديم والجديد ويعبر عن هرطقة مسيحية جديدة، وكانوا يصفون الرسول الكريم نبيا مزيفا تدعو تعاليمه إلى إراقة دماء البشر ومهاجمة المسيحيين، ملمحة إلى أنه لم يسبق أن أرسل نبي من قبل في يده سيف ويعتلي عجلة حربية لم يبق لهم منذ ظهور الدين الجديد سوى تشويه صورة الإسلام.

بدايات أوربا كانت منذ القرن السادس عشر حتى منتصف العشرين قبل أن يزداد النفوذ الأمريكي، وبدأت في عام 1517 بحركة الإصلاح الديني البروتستانتي، تلتها مرحلة الثورة الصناعية، وبدأ التطور الحقيقي للتنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر بدأ في بريطانيا، ولكن التطور الحقيقي كان في فرنسا مستفيدا من نقد العقل ومساهمة العلوم نتج عنه قيام الدولة الحديثة القائمة على الفلسفة التجريبية وتطبيقها على الاقتصاد السياسي والعلوم.

رغم سقوط غرناطة عام 1491 لم يكسر حدة الخوف من المسلمين وكراهيتهم، والآن هناك خوف على أوربا من الإسلام بسبب أن الإسلام دين حيوي حتى لو كان أتباعه في حالة ضعف، وهناك وباء أصاب النخبة المثقفة الأوربية وخصوصا الفرنسية طوال عقود من الزمن شجعت بدورها المتشددين بينهم ما يسمون باليمينيين ويصرون على أن الديمقراطية الغربية محكوم عليها بالفشل نتيجة خضوعها وتساهلها مع المسلمين المهاجرين.

يتخوف مثل هؤلاء المثقفين أن تتحول أوربا إلى أيديولوجية إسلامية سياسية بسبب انحدار أوربا التاريخي ما يؤدي إلى انتحارها حضاريا في نهاية الأمر، بسبب بقاء القليل من التقاليد الأوربية تجاه احترام المقدس رغم قلتها فإنهم يرون أيضا أنها محجوزة أيضا للبديل القادم في أوربا وهو الإسلام الذي يتم إعفاؤها باسم التسامح والاحترام التي تفرضها اللائكية التي تؤمن بها أوربا.

مثل هؤلاء المثقفين قلقون من اتساع رقعة الإسلام في أوروبا ليس فقط عن طريق الهجرة بل عن طريق دخول مسلمين أوربيين جدد في الدين الإسلامي، والقلق الأكبر الذي ينتابهم بسبب دخول شخصيات فرنسية بارزة اعتنقت الإسلام كالشاعر الفرنسي الشهير آرثر رامبو، والفيلسوف رينيه غينو والكاتب ميشال شودكيفيكس ومصمم الرقصات موريس بيجار، لأن التنوير الأوربي لم يعد يقنعهم ويرضيهم.

يعتقدون أن التنوير الأوربي انحرف به التيار في اتجاه مجهول حتى البدائل المطروحة للتنوير ستكون أسوأ حتما بعد أن كانت الخيار الأفضل لجميع أنصار الحرية، لكن تخلي الأوربيين عن تراثهم المسيحي، ودمروا الأسرة عبر تقنين الإجهاض وزواج المثليين والسماح للنساء بالنضال ضد الأبوين وتحويل أنفسهم لمستهلكين آليين أي تحولت أوروبا بلا ملامح حتى الديمقراطية أصبحت وهم لأنهم يجري استغلال الديمقراطية كذريعة لغزو البلدان الأخرى، والآن يجري استغلال الإرهاب كذريعة للتوسع العسكري.

تصر النخب في فرنسا على إعادة إصدار صحيفة شارلي ايبدو الساخرة بعد الاعتداء الذي قضى على هيئة تحريرها وأثار زلزالا حقيقيا أدخل فرنسا في حرب ضد الإرهاب وعلى صفحته الأولى رسم جديد للنبي محمد صلى الله عليه وسلم دامعا يرفع شعار (أنا شارلي) أي أن الصحيفة تعود تصالح الرسول صلى الله عليه وسلم مضمونا وتسئ إليه شكلا، حذرت جامعة الأزهر بأن نشر هذه الرسوم الجديدة المسيئة للنبي سيؤجج مشاعر الكراهية.

كيف تتم الإساءة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم تحت حرية الرأي وهو رحمة للعالمين وقد ورد عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال : (أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم فدخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكت فقال من رب هذا الجمل لمن هذا الجمل فجاءه فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله فقال أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه) صحيح أبي داود، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم رحيم بالبهائم فكيف تكون رحمته بالبشر لذلك لن يقبل أتباعه أن يساء إليه برسوم ظالمة.

يعتقد الغرب أن انهيار الدول العربية والإسلامية، وأن ضربها بالإرهاب سينتهي الإسلام أو سيضعف على الأقل، ولم يدركوا حقيقة أن هذا دين، دين حيوي ينتشر تلقائيا، ينتشر بحقيقته وبقيمه وأخلاقه وتسامحه مهما تم تشويه صورته، حتى ولو كان تشويه صورة الإسلام بالمتطرفين وبالمتشددين لأن الله سبحانه وتعالى تكفل ببقائه إلى يوم القيامة، وأن ما يدور هو تداول ومراحل غير ثابتة، والتاريخ يثبت ذلك (وتلك الأيام نداولها بين الناس).

يدرك الغرب أنهم كانوا في أوج قوتهم كانت تسمى بالحقبة الجميلة، انتهت المرحلة الجميلة باندلاع الحرب العالمية الأولى وحصول أسوأ مذابح عرفها التاريخ الأوربي.

ساهم الغرب في تدمير العالم العربي من خلال قيادات استبدادية تسلطية لا تسمع إلا لنفسها، فأعطى الغرب إشارات لصدام حسين بقيادة حرب مدمرة مع إيران لإضعاف أكبر قوتين في الشرق الأوسط، والإشارة الثانية التي أعطاها لصدام حسين باحتلال الكويت، ثم بدأت مرحلة جديدة من صياغة نظام عالمي جديد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي استخدمت الجهاديين المسلمين في القضاء عليه بعد احتلال الاتحاد السوفيتي أفغانستان.

ثم أتت أحداث 11 سبتمبر التي احتلت على إثرها الولايات المتحدة أفغانستان ثم العراق وتسليمه لإيران لبداية مرحلة تدمير المنطقة العربية، أي حرب بينية تقودها المليشيات بين الشيعة بقيادة إيران والسنة بقيادة الجهاديين القاعدة والآن داعش وهي حرب داخل الإسلام.

أتت ثورات الربيع العربي 2011 كانت فرصة سانحة أوعزت لدول إقليمية بدعم الجانبين التي قسمت المنطقة ودمرتها، لكن الفرصة الوحيدة التي تمكن العرب من مخالفة النوايا الغربية في إسقاط الإخوان المسلمين في مصر ومنع ظهور نشاطاتهم في المنطقة العربية، واستعادت السعودية النواة العربية مصر لبداية مرحلة جديدة من التلاحم العربي.

 لم يعجب ذلك الغرب فبدأ بالتلاعب بورقة الإرهاب كسلاح في وجه السعودية التي تدمر المنطقة، وتركت حاضنة واسعة في المنطقة العربية ينمو بها الإرهاب من سوريا إلى العراق، وجعلت الدول تتقاطر بل تتنافس على محاربة الإرهاب في العراق تحديدا، بينما تركت الحاضنة في سوريا إلى أجل، حتى أصبح مقاتلو سوريا 70 فصيلا رئيسيا يتحكمون في 60 في المائة من جغرافية سوريا إلى جانب النظام السوري وهو صراع مرير لن ينتهي إلا بقيادة عربية موحدة وواعية.

يعتقد الغرب أنه بترك الساحة العربية في سوريا والعراق حاضنة للإرهاب تؤدي إلى تجمع الإرهابيين من جميع أنحاء العالم في تلك المناطق لقتلهم والتخلص منهم وتخليص دول الغرب من الإرهاب في المستقبل، وتعترف الخارجية الأمريكية بأن أكثر من 18 ألف مقاتل أجنبي سافرو إلى سوريا بينهم 3 آلاف غربي على الأقل، وتبرر بأنهم عجزوا عن وقف التدخل بسبب أن حدود تركيا تمتد لمسافة 500 ميل سهلة الاختراق وسمحت بعبور آلاف المسلحين للانضمام إلى داعش والنصرة.

القضية ليست تبرير أو تنديد للهجمة على صحيفة شارلي ايبدو ، صحيح أن على العرب والمسلمين أن يتحملوا مسؤولية مكافحة الإرهاب حتى لا يتحول إلى فاشية يلبس ثوب الإسلام ويدخل العالم في صراع وهو مناف لعالمية الإسلام.

التنديد يجب أن يكون لجميع أشكال العنف والإرهاب الذي يرتكب في فرنسا وفي سوريا وفي العراق وفي السعودية وفي كافة أرجاء العالم، لأن الإرهاب لا دين له ولا قومية، والجميع مسؤولون عن تغول التطرف، والجميع في نفس الوقت ضحايا له، ويجب التفريق بين من يمارس الإرهاب ويندد به مثل نتنياهو الذي يقتل الشعب الفلسطيني وشارك في المسيرة التي خرجت في فرنسا، وتنديد حسن نصر الله وهو يشارك في قتل السوريين إلى جانب بشار الأسد.

ومن حق فرنسا والسعودية أن يخشيان من بروز حواضن إرهابية جديدة مثل ليبيا جنوب فرنسا واليمن جنوب السعودية تضافان إلى جانب الحاضنتين في سوريا والعراق وجاري القضاء على الحاضنة في العراق.

يجب أن يتعاون العالم في القضاء على ظاهرة الإرهاب، وتكون البداية في القضاء على حواضن الإرهاب التي نشأ فيها، وأن تحل محلها دول بدلا من سيطرة الجماعات والمليشيات التي تخرج منها الجماعات الإرهابية، والرفض في التعامل مع تلك الجماعات بشكل منفرد، وحل القضية الفلسطينية بشكل عادل وسلمي خصوصا بعدما وعى العالم بأنها محرض حقيقي للإرهاب.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق