العلاقات الإيرانية-السورية: (2) الهيمنة الإيرانية على سورية 2011-2014

مقدمة:

قدم القسم الأول من هذه الدراسة (1)، إطاراً تحليلياً للعلاقات الإيرانية-السورية في الفترة المتتدة بين أعوام 1979-2010، أي منذ قيام النظام الملالي في طهران، حتى اندلاع الثورة السورية على نظام الأسد. وذلك عبر ثلاثة مراحل رئيسة في تلك المرحلة:

–       مرحلة مأسسة العلاقات.

–       مرحلة تنميط العلاقات.

–       مرحلة الاستقواء.

وقد اختلفت أنماط العلاقات بين الطرفين في المرحلة الممتدة بين أعوام 2011-2014، إلى مرحلة هيمنة إيرانية على الدولة السورية ككل، حتى باتت محتلة لها، سواء من خلال هيمنة الحرس الثوري والميليشيا العراقية واللبنانية على الأرض السورية، أو من خلال الهيمنة السياسية على نظام الأسد. فبات الأسد بذلك حاكماً مفوضاً من طهران لا أكثر.

ويمكن دراسة هذه الهيمنة من خلال النقاط التالية:

–       الهيمنة السياسية.

–       الهيمنة العسكرية (شركاء في الجريمة).

–       الهيمنة الاقتصادية.

–       الأبعاد الإقليمية والدولية للهيمنة الإيرانية على سورية.

أولاً- الهيمنة السياسية:

شكلت سورية مرتكزاً أساسياً في المشروع الإيراني منذ عام 1979، اعتمدت عليها إيران في اختراق محيطها العربي في العراق ولبنان وفلسطين، جاعلة منها صلة وصل مع دول الخليج العربي. وتشكل هذا الاختراق في كافة الأطر الحكومية والمجتمعية والنخبوية معاً (كما مر ذلك في القسم الأول من هذه الدراسة).

وشهد عام 2011، مع اندلاع الثورة السورية على نظام الأسد، تحولاً كبيراً في نمط العلاقات السياسية بين الطرفين، فبعد أن تدرجت العلاقات من علاقات ندية بين دولتين، إلى مرحلة نمطية في العلاقات، ومن ثم مرحلة استقواء كل طرف بالآخر. شكل هذا العام بداية لما سيظهر من هيمنة إيرانية على غالبية الأداء السياسي والعسكري لنظام الأسد، الداخلي منه والخارجي.

حيث وُظِّفت الماكينة الإعلامية الإيرانية (المنار، العالم، الميادين، الفضائيات المذهبية العراقية..)، في خدمة الترويج لهذا النظام، وإعادة صناعة الحدث بما يحفظ استمرارية نظام الأسد، في اختراق فكري آخر لجزء من المجتمعات العربية، وإعادة صياغة وتشكيل وعي عربي زائف.

كما غدا الساسة الإيرانيون، بالإضافة إلى الروس، من رؤساء ووزراء خارجية، أصحاب المسؤولية المباشرة في إدارة الحدث السوري، والتفاوض الدولي حوله، أكثر مما يعمل نظام الأسد ذاته. وتحولت إيران إلى اللاعب الأساسي في القضية السورية، التي لا يمكن إيجاد مخرج لها إلا بالاتفاق مع إيران على مخرجات المصالح فيها.

وساعد في ذلك، غياب استراتيجية عربية متكاملة، لتخليص سورية من مأزقها، من ذلك ما أقدم عليه الرئيس المصري السابق محمد مرسي، بالتقرب من إيران واعتبارها أحد مفاتيح الحل في القضية السورية، ما دفع السعودية إلى مقاطعة الجلسات الرباعية التي دعت إليها مصر (مصر والسعودية وتركيا وإيران).

ونتيجة غياب التوافق العربي حول الموضوع السوري، وخصوصاً مع دعم أنظمة كالجزائر والسودان والعراق لنظام الأسد؛ استطاعت إيران تعزيز دورها السياسي في سورية خاصة، والمشرق العربي عموماً. وهو ما يدفع إلى محاولة فرضها كأحد المحاورين في مؤتمر جنيف 2، لبحث سبل للتسوية تبدو بعيدة المنال.

بل كان الحفاظ على نظام الأسد بالنسبة إلى الإيرانيين هو ثمن كافٍ لمقايضته على ملف بحجم الملف النووي، ذلك أن دمشق هي العقدة الأهم التي تمسك بأطراف محور طهران- بيروت، والذي يشكّل ذروة الحلم الفارسي- الشيعي في المنطقة، ناهيكم عن أنّ الإيرانيين يعلمون ضمناً أنّ فرص نجاح مشروعهم النووي شبه معدومة، وهم حتى لو نجحوا في الوصول إليه، لا يريدون التحوّل إلى كوريا شمالية جديدة؛ بلد يحبس نفسه بين جدران سميكة وعالية، فمشروعهم التوسّعي الطموح يعمل بعكس هذا المفهوم وتربكه الحدود والموانع، لذلك لن تكون خسارة ملحوظة إذا كان البديل هو إطلاق يدهم في تصنيع سلاح ديموغرافي وجغرافي أخطر وأمضى، سلاح موجود على الأرض وليس مخبأ في المخازن، وتأثيره الفعلي يمتدّ على مساحة جغرافية أوسع تصل إيران بالمتوسط فتُحكم الوثاق على جزيرة العرب وتضعها بين فكي كماشة (2).

وفي تصور لبعض خبراء الأمم المتحدة، فإن التنازل الذي قدمه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في جنيف، إبان المفاوضات بشأن الملف النووي، ما كان ليحدث لولا خوف طهران من انهيار النظام السوري (3). وعلى أساسه يمكن قراءة ذلك بمقايضة دولية بين الملف النووي من جهة واستمرارية نظام الأسد تحت الهيمنة الإيرانية من جهة أخرى.

كما تعمل إيران، على إحداث تغيرات ديمغرافية في سورية، من خلال تجنيس مئات الآلاف من الشيعة العراقيين والإيرانيين واللبنانيين من جهة، وسحب الجنسية السورية من المواطنين السوريين من جهة أخرى. فعلى مستوى التجنيس، كان قد سبق للأسد الأب تجنيس عشرات آلاف الإيرانيين الشيعة الذين طردهم صدام حسين من العراق إبان حرب الخليج الأولى في ثمانينيات القرن الماضي.

ويعمل نظام الأسد على إصدار بطاقات هوية جديدة تستثني كل المواطنين السوريين خارج مناطق سيطرته، فيما يشبه نزع جنسية عنهم، تؤهل مؤيديه ومن هم تحت سيطرته فحسب، لحق الاستفتاء على تمديد فترة رئاسته لولاية ثالثة.

وقد أصدر ناشطون سوريون من مدينة السويداء، بياناً في 15/7/2013 رفضوا فيه مشروع تجنيس ما يقارب 40 ألفاً من التابعية اللبنانية والعراقية خصوصاً – غالبيتهم من عناصر حزب الله اللبناني والعراقي المقاتلة إلى جانب النظام وآخرين مدنيين – ومنحهم نسب عائلات من عائلات الجبل المعروفة والأصلية، من سكان المحافظة ومحيطها لإخفاء عمليات التجنيس، وكذلك استملاك أراضي وتوزيعها عليهم. لأهداف عسكرية وسياسية (4).

ثانياً- الهيمنة العسكرية (شركاء في الجريمة):

إنّ أبعاد المشروع الإيراني في سورية لا تعتمد على مصالح سياسية يمكن التفاوض عليها بالنسبة للقيادات الإيرانية، أو منافع اقتصادية بغية كسر العقوبات الدولية فحسب. فخروج سورية عن الهيمنة الفارسية يعني انكسار المشروع في المشرق العربي، من نواة مركزية سورية، وتمدد هذا الانكسار نحو البيئات المشرقية الأخرى، اللبنانية والعراقية والفلسطينية، وهو ما يعني سقوط الهدف الإيراني النهائي في إحكام الخناق على دول الخليج العربي وإنهاء مطمع التغلغل العسكري في تلك الدول.

لذا دفعت إيران وبشكل تدريجي نحو إعلاء القيمة العسكرية للمشاركة الإيرانية إلى جانب نظام الأسد وفقاً لتطورات الواقع الميداني في سورية. بدءاً من إرسال العتاد العسكري والخبراء والمدربين، وإن كانت تلك المساندة قائمة منذ عقود، إلا أنها تعززت بشكل مضطرد ومتسارع من تاريخ 15 آذار/مارس مع اندلاع الثورة السورية.

تلاها الإيعاز لجملة الميليشيا العراقية واللبنانية التابعة لها عقائدياً وعسكرياً، نحو الانخراط المباشرة في مساندة قوات الأسد، قبل أن تتحول إلى مرتكز العملية العسكرية الإجرامية تجاه الشعب السوري، وتغدو قوات الأسد مجرد داعم لوجستي عسكري لها، سواء عبر إمداداها بما تحتاج له، أو تمهيد السبل أمامها في اجتياحاتها للمدن والقرى السورية.

حيث أفادت التقارير بأن عشرات الآلاف من كتائب أبو الفضل العباس وعصائب أهل الحق ولواء عمار بن ياسر وكتائب سيد الشهداء العراقية، وحزب الله اللبناني، وجميعها بقيادة قوات النخبة من عناصر الحرس الثوري ولواء القدس الإيرانيين، هي من تخطط وتدير وتخوض المعارك ضد المعارضة في حلب وريف دمشق، إلى درجة أن دور قوات الأسد يبدو ثانوياً في هذه المعركة، وهو لا يعدو كونه تشكيلات مجنّدة وفرق دعم لوجستي وإمداداً جوياً ومدفعياً بالنيران تدار كلها من جانب الإيرانيين، وقد سجّل الناشطون مشاهدتهم للأعلام الإيرانية ترفع علانية على الآليات التي سيطرت على عدة مناطق في سورية (5).

وسبق للائتلاف الوطني السوري، المظلة الرئيسة للمعارضة السورية، أن أعلن أنّ مقاتلين من 14 تنظيماً شيعياً يقاتلون إلى جانب القوات الحكومية في سورية. وعلى الرغم من أن إيران تبقى الحليف الرئيس لسورية، فإنّ الائتلاف يقول إنّه يجري جلب هؤلاء المقاتلين إلى سورية بمساعدة رئيس وزراء العراق نوري المالكي (6).

وتتنوع التشكيلة الشيعية المقاتلة في صفوف تلك الميليشيا، إذ يشكل اللبنانيون والعراقيون محورها، إلاّ أنها لا تقتصر عليهم، إذ شملت عناصر باكستانية وأفغانية شيعية، تحت شعارات “الواجب الجهادي” و “الدفاع عن زينب” و “لن تسبى زينب مرتين”، بعد أن تمّ تعبئة هذه الحشود دينياً بغية “حماية الأماكن المقدسة الشيعية”من السوريين السنة، ومن خلال ما تمّ إثباته من حمل هؤلاء المقاتلين لجوازات سفر شيعية ممهورة من “المهدي المنتظر” تؤهلهم “لدخول الجنة” في حال مقتلهم أثناء مشاركتهم العسكرية.

وسبق لمركز المزماة أن شارك على صفحته تصويراً لأسرى عراقيين بيد السوريين، أثبتوا فيه مشاركتهم سواء بشكل مرتزق أو بشكل عقائدي في الجرائم تجاه المدنيين السوريين، عبر تنظيم من كبار رجال الدين الشيعة في العراق وإيران. ومن ذلك ما أصدره رجل الدين الشيعي العراقي آية الله العظمى كاظم الحائري، المقيم في إيران، من فتوى علنية تفرض قتال الشعب السوري، إلى جانب قوات الأسد.

حيث ينخرط كثير من أتباعه المقاتلين في ميليشيا “عصائب أهل الحق”، ويرأس تلك الميليشيا قيس الخزعلي، الذي كان مساعداً لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر قبل أن ينشق عنه. وفي رده على سؤال لأحد أتباعه عن مشروعية السفر إلى سورية والقتال هناك، قال الحائري: “المعركة الدائرة في سورية ليست للدفاع عن ضريح السيدة زينب، إنها حرب يخوضها الكفرة ضد الإسلام، ومن ثم ينبغي الدفاع عن الإسلام”. وأضاف الحائري في تعليقات منشورة على موقعه الإلكتروني الرسمي: “القتال في سورية مشروع، والذين يُقتلون خلال المعارك هم شهداء”. ويقول عشتار الكعبي، عضو ميليشيا “عصائب أهل الحق” الذي ينظم إرسال المقاتلين الشيعة من العراق إلى سورية، إنّه يوجد في الوقت الحالي نحو ألف مقاتل من التابعين للميليشيا في سورية، وإنّ كثيرين يتطوعون للذهاب إلى الأراضي السورية للانخراط في القتال الدائر هناك. وبسؤاله عما إذا كانت فتوى الحائري وراء الزيادة في أعداد المقاتلين، قال الكعبي “نعم، لقد كان لتلك الفتوى الأثر الكبير في تلك الزيادة” (7).

كما أكدت جماعة «عصائب أهل الحق» في العراق أنّ أيّ فتوى يصدرها مرجع شيعي إنما هي ملزمة لأتباعه ومقلديه. وفي حين استبعد الناطق الرسمي باسم الجماعة، أحمد الكناني أن تكون الفتوى “تمثل دعوة للقتال إلى جانب بشار الأسد، فإنّه عدّ أنّ “أيّ قتال في سورية إنّما يهدف إلى منع وصول المتطرفين إلى الأماكن الشيعية المقدسة، وبالتالي يمكن أن تكون فتنة طائفية في عموم المنطقة”. وأضاف الكناني أن “السيد الحائري له فتوى قديمة بهذا الاتجاه، ولكنها بشكل عام ملزمة لأتباعه ومقلديه، وهذا أمر معروف لدى الشيعة”. وأضاف: “إنّنا لا نقاتل إلى جانب بشار الأسد لأن رؤيتنا للأسد هي أنّه نظام بعثي ديكتاتوري، ولكن نرى أنّ التغيير يجب أن يكون بوسائل أخرى، كما أنّ البديل المطروح الآن هو الأكثر تطرفاً” (8).

وكان غسان هيتو، أحد قيادات المعارضة السورية، قد نشر على صفحته على الفيسبوك في 12/1/2014، أنّ ميليشيا أبو الفضل العباس قامت باغتصاب 40 امرأة أمام عائلاتهن بشكل جماعي، وقتلوا 20 شاباً أمام عائلاتهم ذبحاً ورمياً بالرصاص، واقتادوا 1200 شخص إلى أبنية تقع على خطوط المواجهة مع الثوار في بلدة يلدا متخذين إياهم دروعاً بشرية.

لكن موضوع إلزام الفتوى بفصيل شيعي منفرد دون غيره، لا يمثل واقعاً على أرض المعارك، فقد سبق لعديد من رجالات الدين في إيران أن دعوا إلى مشاركة القتال إلى جانب قوات الأسد، وسبق لميليشيا حزب الله وأمينها العام أن كان أول المبادرين لتقديم خدماته الإجرامية للنظام السوري، ومنذ شهر أيار/مايو 2011، وذلك وفقاً لإحدى وثائق خلية إدارة الأزمة في القيادة القطرية لحزب البعث، والتي طالبت بتزويد “العناصر اللبنانية” بهويات أمنية سورية وسلاح سوري، أثناء مشاركتها في قمع المسيرات السلمية.

إلى أن أعلنت ميليشيا حزب الله اللبناني مشاركته العسكرية رسمياً، بعد شهور من إنكار أية مشاركة عسكرية في سورية، في شهر أيار/مايو من عام 2013. ومنذ ذلك الحين، ساعد حزب الله قوات الأسد في استعادة السيطرة على مجموعة من المدن والقرى الواقعة قرب الحدود اللبنانية، وخاصة مدينة القصير في محافظة حمص، قبل أن تنتقل تلك الميليشيا إلى محافظة حلب ومحافظة ريف دمشق.

غير أنّ المشاركة الإيرانية في جريمة إبادة الشعب السوري، لم تقتصر على دعم نظام الأسد أو إرسال الميليشيا التابعة لها إلى سورية. فبعد جملة إخفاقات وخسائر مُنِي بها النظام والميليشيا على عدة جبهات للقتال، انخرط الحرس الثوري الإيراني بشكل مباشر في إدارة الصراع وتوجيهه والمشاركة به.

فبعد صفقة الكيماوي السوري ضحّت الولايات المتحدة بأفضلية حليفها الخليجي لمصلحة الوافد الجديد، كما غضت الطرف عن التدخل الإيراني السافر في سورية، حتى أصبح الوجود الإيراني هناك أكثر علانية وفجاجة، ولم يعد يعني الإيرانيين الالتفاف والمواربة في هذا الشأن، وقد تبدّى ذلك بسرعة قياسية في تصريحات قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في منتصف أيلول/سبتمبر 2013 من أن “إيران ستدعم سورية حتى النهاية”، ثم بيّنه في شكل أكثر وضوحاً وجلاءً جواد كريمي قدوسي عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، عندما تحدّث علانية عن وجود مئات الكتائب العسكرية التابعة للجمهورية الإسلامية تقاتل إلى جانب بشار الأسد، وزاد على ذلك أنّ “طهران هي من يقف خلف الانتصارات التي حققها جيش النظام السوري أخيراً”، تلى ذلك التشييع الذي جرى لمحمد جمالي زاده القائد الرفيع في فيالق الحرس الثوري والذي قُتِل خلال تأديته “واجبه الجهادي” في منطقة السيدة زينب قرب دمشق (9).

وعمدت إيران إلى مساندة نظام الأسد عبر عمليات اختراق للقوى المقاتلة له، من خلال ما عرف بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية (داعش)، إحدى تشكيلات تنظيم القاعدة الإرهابي. ففيما كانت قوات الجيش الحر تتصدى لتوغل قوات الأسد والميليشيا المقاتلة معه، عمدت (داعش) إلى السيطرة على عدد من المناطق التي كانت خاضعة للجيش الحر، ودخلت معها في اشتباكات أدّت إلى تصفية (داعش) لكثير من الناشطين والعسكريين الثوريين، قبل أن تُمنى بخسائر فادحة في مدينة حلب وتضطر إلى مغادرتها. حيث كانت قد استخدمت مقرات نظام الأسد السابقة كمقرات لها في مواجهة الشعب السوري، ليعمد الأسد إلى قصفها بعد انسحاب (داعش) منها، وسيطرت الثوار عليها.

ونشر ناشطون سوريون، تسجيلاً مصوراً أظهروا خلاله حيازتهم جوازات سفر تعود لعناصر (داعش) بريف حلب الغربي بعد السيطرة على مقراتهم ومنازلهم، وتظهر الصور حيازة عناصر (داعش) على جوازات سفر إيرانية، إضافة لدخول معظمهم إلى إيران وروسيا أثناء اندلاع الثورة السورية وقبل وصولهم إلى سورية عبر الأراضي التركية. كما أظهر المقطع حيازة عناصر التنظيم على شرائح اتصالات إيرانية وروسية، مؤكدين أنّ معظمهم يعمل لصالح أجهزة المخابرات الإيرانية والروسية (10).

وكان سبق وأكّد وزير العدل العراقي حسن الشمري أنّ رؤوساً كبيرة في الدولة العراقية؛ سهلت بمشاركة القوات الأمنية المسؤولة عن حماية إدارة أمن سجني أبو غريب والتاجي في بغداد، هروب عناصر وقادة القاعدة، لتعظيم دور التنظيم في سورية، وتخويف الولايات المتحدة من النظام الذي قد يخلف الأسد. وأضاف الشمري أنّ قوات حماية السجنين قد انسحبت منهما قبل اقتحام عناصر تنظيم القاعدة للسجنين وتهريب رفاقهم السجناء في تموز/يوليو 2013. وذُكر آنذاك أنّ نحو 500 سجين من بينهم قادة كبار بالقاعدة فرّوا من سجن أبو غريب (11).

وعليه، فقد شكلت (داعش) النموذج الذي أراد النظام السوري وحلفاؤه أن يكون في الواجهة، وأن تتصدر أفعاله الضجيج الإعلامي، ولهذا السبب بدأ النظام تسليم (داعش) بعض المواقع ليخير الناس بينه وبين هذا التنظيم التكفيري، بدءاً من محافظة الرقة قبل زهاء سنة ونصف، بعد الإفراج عن مجموعة من رموزه في السجون السورية، وبعد إفلاتهم من سجون العراق. لتتحول (داعش) إلى رديف استبدادي للنظام فيما يسمى بالمناطق المحررة، وأتاحت للأسد المجاهرة قبل عام بالقول لحلفائه اللبنانيين: “نجحنا في جعل القاعدة في واجهة الأحداث، وهذا سيحول دون تقديم الغرب المساعدة للمعارضة، لأن أولوية الغرب باتت محاربة الإرهاب”. وبالفعل تجنب طيران الأسد قصف مواقف (داعش) في الرقة حيث كانت الطلعات الجوية تستهدف مواقع للجيش الحر على بعد مئات الأمتار من مواقع تنظيم (داعش) (12).

ثالثاً- الهيمنة الاقتصادية:

شكل الاختراق الإيراني لسورية على كافة المستويات، بيئة مواتية لإحكام السيطرة على الاقتصاد السوري، وتوظيفه كأداة لكسر العقوبات الدولية المفروضة على إيران من جهة، وبوابة عربية للسلع الإيرانية، واستنزافاً كاملاً للموارد الاقتصادية السورية، خاصة في ظل عجز كبير في الميزان التجاري ما بين الدولتين، كما أوضحنا في القسم الأول من هذه الدراسة.

ورغم اندلاع الثورة السورية على نظام الأسد الابن، إلاّ أنّ إيران ظلّت تحتفظ بهيمنتها الاقتصادية على العلاقات التجارية مع سورية، بل وعززتها في مناحٍ عدة، بلغت درجة إنقاذ الأسد من الإفلاس في مرات عدة، وضخ مزيد من الأموال في الموازنة العسكرية السورية.

إذ عقد الأسد اتفاقية من 17 مادة مع إيران، بعد اندلاع الثورة السورية، وركزت على “التجارة والاستثمار والتخطيط والإحصاءات والصناعات ووسائط النقل الجوي والبحري والأرضي والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والصحة والزراعة والسياحة”. إلاّ أنّ العقوبات الدولية التي فرضت على سورية تسببت في تعليق كل الاتفاقات السابقة التي كانت إيران تحاول تأمينها في المنطقة، بعد أن تسببت في ضغوط هائلة على إيران. ورغم أنّ المسؤولين الإيرانيين ألمحوا مراراً إلى أنّ تحالفهم الاقتصادي لن يتأثر بقضايا الأمن بعد اندلاع الثورة السورية؛ فإنّ الشركات الحكومية السورية ورجال الأعمال واجهوا صعوبات جمة وعقبات كثيرة في العمليات التجارية وفي التوصل إلى صفقات مع إيران بسبب القيود على التحويلات بالدولار (13).

وكان التحالف الاقتصادي الإيراني- السوري يتراوح في تعامله بين العقود الحكومية والشركات الخاصة باعتماد الدولار للتحويلات. غير أنّ الأنظمة التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي ودول الخليج العربية الأخرى بعد بدء الثورة جعلت من الصعب الاستفادة من العملات الأجنبية والحصول عليها عبر المصرف المركزي السوري. ودفع الضغط الاقتصادي على الدولتين إلى توقيع اتفاق تجارة حرة رمزي بينهما في كانون الأول/ديسمبر 2011. وكان خطوة لمحاولة التقليل من تأثير العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعض دول الجامعة العربية، ولتخفيف الموانع التجارية التي برزت نتيجة ما حققه الثوار من تقدم (14).

وبموجب الاتفاقية الأخيرة، فإنّ التجارة ستحصل على مزيد من الحرية. وأعلنت الدولتان أنّهما ستخفضان من الضرائب الجمركية لتسهيل التجارة والأعمال. وعلى وجه الخصوص، فإنّ سورية قررت تخفيض الضرائب على السلع السورية المصدرة إلى إيران بنسبة 60% لتعزيز التجارة الثنائية بينهما (15).

وهذا ما يؤكد أهمية الملف السوري في الاستراتيجية الإيرانية تجاه البيئة العربية، حيث استمرت إيران بضخ أموالها تجاه نظام الأسد، تأكيداً على عدم استعدادها للتراجع عن مشروعها في سورية، ومنه إلى باقي الدول العربية.

إذ فتحت إيران خط ائتمان بقيمة 3.6 مليار دولار لدمشق، لتغطية حاجات النفط لسورية التي تواجه حصاراً دولياً، وذلك مقابل حق الاستثمار في سورية، كما ذكرت وكالة الأنباء السورية الرسمية “سانا”. وأوضحت “سانا” أنّ “الاتفاق الذي وقعه عن الجانب السوري حاكم مصرف سورية المركزي أديب ميالة، وعن الجانب الإيراني محافظ البنك المركزي الإيراني محمود بهمني، يتضمن تسديد الجانب السوري قيمة النفط الذي يتم توريده من إيران، عن طريق استثمارات إيرانية في سورية في مجالات مختلفة” (16).

كما أعلن حاكم المصرف المركزي السوري أديب ميالة في منتصف عام 2013، أنّ إيران تقدم تسهيلات ائتمانية تصل قيمتها إلى سبعة مليارات دولار لبلاده. وقال ميالة إنّ إيران تواصل “دعم سورية لجهة تقديم خط ائتماني لتمويل استيراد السلع بقيمة مليار دولار قابل للزيادة فور استنفاذه، وخط ائتماني آخر بقيمة ثلاث مليارات دولار لتمويل احتياجات سورية من النفط والمشتقات النفطية.. والسعي للانتهاء من كل الإجراءات الخاصة، بتقديم قرض ميسر من الجانب الإيراني لسورية بقيمة ثلاثة مليارات دولار أخرى (17)“.

غير أنّ الانهيارات الاقتصادية الكبرى التي طالت الاقتصاد الإيراني، وخاصة في عام 2013، وانعكاساتها السلبية على مستوى المعيشة داخل إيران، وما حملته من تهديد للنظام الإيراني ذاته، والتي كانت نتيجة للعقوبات الدولية المتراكمة على إيران منذ عقود؛ دفعت القيادات الإيرانية إلى إعادة النظر في حجم الدعم الذي يناله أتباعها في العالم العربي.

حيث أكّدت مصادر رسمية إيرانية، أنّ الرئيس الايراني حسن روحاني، قرّر خفض أو إلغاء المساعدات إلى بعض الدول التي تطلق عليها إيران تيار المقاومة، ومن بينها سورية وحزب الله والمليشيات التابعة للأحزاب الشيعية في العراق، إضافة إلى تقليص رواتب ومخصصات شخصيات سياسية عراقية تدفع لها إيران ملايين الدولارات لها مقابل الخدمات التي تقوم بتقديمها في مجالات عدة. حيث أبلغ روحاني مساعديه أنّه لا يستطيع أن يقتطع من الإنفاق على الخدمات ودعم السلع الاساسية في الوقت الذي تدفع فيه إيران ملايين الدولارات إلى سورية وحزب الله والمليشيات في العراق. فيما تمّ إبلاغ جميع هذه الأطراف بتقليص الدعم المالي الإيراني لها، وأنّ عليها أنّ تواجه بنفسها هذه الحقيقة (18).

رابعاً- الأبعاد الإقليمية والدولية للهيمنة الإيرانية على سورية:

لا يكترث المجتمع الدولي، بحجم الجرائم الواقعة على الشعب السوري، طالما أن مصالحه ما تزال مصانة ضمن اتفاقات غير معلنة بين إيران ونظام الأسد من جهة والقوى الغربية وإسرائيل من جهة أخرى، فكما سبق للغرب أن تغاضى عن الجرائم التي ارتكبها النظام الإيراني بحق الشعب العراقي، قبل أن يُحكِم هيمنته عليه، وفرض إطار سياسي عبر رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، فإن ذات التجربة تتكرر في سورية، قبل أن يسعى النظام الإيراني إلى نقلها إلى بيئات عربية أخرى.

فهي معركة إيران الكاملة والموصوفة، والخشية من أنّ الصمت الدولي عن التدخل الإيراني الواسع في سورية ليس إلا أحد البنود غير المعلنة للصفقة الأميركية – الروسية، كما هو بادٍ ظاهرياً على الأقل، فإن كان الأمر كذلك واستمر على هذه الشاكلة، فإنها مسألة وقت فقط قبل أن تقوم إيران بتغيير الوقائع على الأرض واحتلال معاقل قوات المعارضة الأكبر في حلب وريف دمشق وتسليمها إلى الأسد وإعادة فتح طريق طهران – بيروت، وعلى مرأى ووسط صمت مجتمع دولي تسلم مفاتيح مخازن أسلحة الدمار الشامل ويدرك أنه يحتاج إلى أشهر وسنوات لإفراغها، وأن من الأفضل له أن يفـــعل ذلك في ظل الأسد الذي اختبر وفاءه، على أن تقع في أيدي تنظيمات كالنصرة وداعش (19).

خاتمة:

شكلت سورية بعداً آخر من أبعاد الاختراق الإيراني للمجتمع العربي، حتى بلغ مستوى هذا الاختراق، ما يمكن أن يطلق عليه “احتلال إيراني” للدولة السورية، وقد عمدت إلى توظيف كامل قدراتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والدينية في خدمة تكريس احتلالها لسورية.

إذ إن المشروع الإيراني في العالم العربي، يرتكز اليوم على قدرة هذا المشروع على الاستمرارية في سورية أولاً، ومن خلاله المحافظة على الهيمنة على العراق ولبنان، ومنه، يمكن لها حينها التوسع نحو بيئات عربية جديدة.

ولا يمكن قراءة أمن الدول العربية منفردة إلا من خلال منظور كلي، يراعي الاختراقات الأجنبية، وعلى رأسها الإيرانية، داخل مجتمعاتنا، إذ أثبتت إيران، استشراسها في الدفاع عن مصالحها ومشروعها في مقابل تباينات عربية سهلت احتلال إيران للعراق، وتدعم بعضها المشروع الفارسي في سورية.

وعليه، فإن الضغط العربي الجاد، وتوحيد الرؤية الأمنية والمستقبلية لمنطقة المشرق العربي، هي ذاتها صيانة لكافة الدول العربية، ويقع العبء الأكبر اليوم، على الدول العربية المشاركة في مؤتمر جنيف 2، لفرض أجندة سياسية عربية خالصة، تستبعد المشروع الإيراني كلياً من سورية، وتقضي على توابعه الإرهابية، تمهيداً لاستعادة عراق ولبنان عربيين، خاصة مع القدرة على استبعاد إيران عن هذا المؤتمر ومنعها من فرض أجنداتها السياسية عليه بشكل مباشر.

وأخص بالذكر هنا، تلك الدول التي تمتلك قدرة الحراك، سياساً واقتصادياً وعسكرياً، وخاصة أن التجارب أثبتت تراجع إيران تجاه التحرك العربي الجاد، كما حصل في البحرين واليمن.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

مراجع:

(1) للاطلاع على القسم الأول من هذه الدراسة، انظر: عبد القادر نعناع، “العلاقات الإيرانية-السورية: (1) الفترة 1979-2010”، مركز المزماة للدراسات والبحوث، 14/12/2013، في: http://almezmaah.com/ar/news-view-3736.html.

(2) إياد شربجي، “النووي الإيراني في سورية“، صحيفة الحياة، 20/11/2013، في: http://alhayat.com.

(3) سليم نصار، “شرط إيران بعد جنيف: تعويم نظام الأسد”، صحيفة الحياة، 7/12/2013.

(4) للمزيد حول موضوع تجنيس الشيعة في سورية وأبعاده، انظر: علي حسين باكير، “كيف يتلاعب الأسد بالمعطيات الديموغرافية في سورية؟: تجنيس الشيعة”، المجلة، 18/8/2013: http://www.majalla.com.

(5) إياد شربجي، مرجع سابق.

(6) نذير رضا وكارولين عاكوم، “أول فتوى من قم تجيز القتال إلى جانب الأسد”، صحيفة الحياة، 16/12/2013.

(7) المرجع السابق.

(8) المرجع السابق.

(9) إياد شربجي، مرجع سابق.

(10) أنس شربتلي، “داعشيون بجوازات سفر إيرانية وشرائح اتصالات إيرانية وروسية”، 10/1/2014، أورينت نت، في:http://orient-news.net.

(11) “وزير العدل العراقي يكشف أن مسؤولين هربوا سجناء القاعدة لإخافة واشنطن من خليفة الأسد”، 5/1/2014، كلنا شركاء، في: http://www.all4syria.info.

(12) وليد شقير، “داعش وجنيف 2 وحزب الله”، 10/1/2014، صحيفة الحياة، في: http://alhayat.com

(13) “تحليل العلاقات الإيرانية السورية من خلال منظور الدور الإيراني المعقد في سوريا”، صحيفة القدس، 6/1/2013، في: http://www.alquds.com

(14) “تحليل العلاقات الإيرانية السورية من خلال منظور الدور الإيراني المعقد في سوريا”، صحيفة القدس، 6/1/2013.

(15) المرجع السابق.

(16) “خطة ائتمان بقيمة 3.6 مليار دولار من إيران مقابل حق الاستثمار في سورية”، أ ف ب، 30/7/2013.

(17) “تسهيلات ائتمانية إيرانية لسورية بقيمة سبعة مليارات دولار”، فرانس 24، 28/5/2013، في:http://www.france24.com/ar.

(18) “روحاني يخفض الدعم المالي لسورية وحزب الله والميليشيا في العراق“، صحيفة الزمان، 18/8/2013، في:http://www.azzaman.com.

(19) إياد شربجي، مرجع سابق.

الوسم : إيرانسورية

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق