العالم يبحث عن تطوير نماذج تسهم في تحفيز النمو العالمي

دائما هناك سؤال يطرحه الاقتصاديون، هل استطاع المعروض النقدي من النقود في دول مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي واليابان والصين نتيجة التيسير الكمي أو التحفيز النقدي، بطبع أموال لضخ سيولة في السوق مباشرة أو من خلال شراء أصول حكومية في محاولة إنعاش اقتصاداتها بعد التباطؤ الاقتصادي الذي ضرب الأسواق العالمية في عام 2008 إلى تحقيق معدلات إنفاق تستطيع من خلالها ضبط معدل التضخم الذي يضمن معدل النمو المستهدف؟

 الواقع يجيب على هذا السؤال بأن تلك المحاولات لم تأت بنتائج مرجوة، ولم تحقق معدلات إنفاق تستطيع من خلالها ضبط معدلات التضخم الذي يضمن معدل النمو المستهدف، ولا زالت نمو ضعيفة ومعدلات تضخم قليلة، وهناك جدل حول فاعلية التيسير الكمي، مثلما فشلت اليابان في تحقيق الأهداف التضخمية المنشودة من البرنامج.

الهندسة المالية جعلت القواعد المالية القديمة غير صالحة، فالتيسر أو التسهيل الكمي سياسة نقدية غير تقليدية تستخدمها البنوك المركزية لتنشيط الاقتصاد عندما تصبح السياسة النقدية التقليدية غير فعالة، حيث يشتري البنك المركزي الأصول المالية لزيادة كمية الأموال المعروضة في الاقتصاد من أجل أن تزيد من الإقراض بهدف الوصول إلى أهداف التضخم المستهدفة عند 2 في المائة (معدلات التضخم المنخفض لها أبعاد سلبية على الاقتصاد مثل معدلات التضخم المرتفعة).

ولو أخذنا اليابان مثالا، فإن اليابان خلال ثلاثة أعوام من التيسير الكمي منذ عام 2013 لم تؤتي ثمارها المرجوة بسبب أنها اتبعت تيسير كمي ثلاثة أضعاف التيسير الكمي في الولايات المتحدة، نسبة إلى حجم الناتج المحلي الإجمالي، أدى إلى خفض قيمة الين الياباني من 80 ين مقابل الدولار إلى 125 ين وهو مفيد للصادرات اليابانية، لكن انخفضت نسبة النمو من 1.2 في المائة في إبريل 2016 إلى 1 في المائة في مارس 2017، بينما معدلات النمو العالمي يبلغ في حدود 3 في المائة.

 أي أنها لن تتمكن من رفع ناتجها المحلي الإسمي من 4 تريليون دولار في عام 2015 كثالث اقتصاد في العالم إلى 4.8 تريليون دولار في عام 2020، بل قد يتحقق عام 2024 إذا بقي النمو بطيئا بسبب انخفاض أسعار المستهلكين 0.5 في المائة خلال شهر يونيو 2016 مقارنة بالشهر نفسه من العام الذي قبله.

كما أن سياسة أسعار الفائدة السلبية بمثابة تغيير لقواعد اللعبة، ما أدى إلى تشويه تقييم السندات الحكومية والتي تعتبر من أكبر الفقاعات المالية في التاريخ التي تزيد من خطر رأس المال والسيولة بسبب أنها تجبر المستثمرين والمدخرين في جميع أنحاء العالم يواجهون عوائد سلبية بشكل استثنائي في النقدية والدخل الثابت ولم تفرق تلك السياسات بينهم وبين هدف تخفيض التعاملات على المكشوف التي أضرت بالاقتصاد الحقيقي.

أيا يكن ذلك فإن المسار الحالي للتوسع النقدي والائتماني غير مستدام، وله انعكاسات خطيرة، خصوصا وأنها تترك المستثمرين محاولتهم فقط في استعادة رؤوس أموالهم، بدلا من تحقيق عائد على رؤوس أموالهم، وهو سيناريو يصب في مصلحة الذهب وغيره من الأصول غير الحقيقية، وإحداث اختلالات عالمية.

 أي أن العالم يتجه نحو منحدر خطير، وأن تتحول العلاجات الورقية إلى مجرد أوراق، وبحسب قانون جريشام في المرحلة الأولى تحل النقود السيئة محل النقود الجيدة، بينما العالم في المراحل المبكرة من المرحلة الثانية، والأخيرة حيث الأموال الجيدة تحل محل الأموال السيئة.

والحضارة الإسلامية لها إسهاماتها سابقة حول النقود الرديئة تحل محل النقود الجيدة، فالمقريزي في القرن الخامس عشر قبل الفترة التي عاشها جريشام في القرن السابع عشر حيث أشار المقريزي في كتابه ( شذوذ العقود في ذكر النقود ) إلى العلاقة بين الأسعار ومستويات السيولة في السوق، وتوصل إلى قانون النقود الرديئة أي المصنوعة من المعادن الزهيدة التكلفة، مثل النحاس والحديد تطرد النقود المسكوكة من المعادن النفيسة مثل الذهب والفضة بما يفوق أسعار الصرف المحدد، فيتجه الناس إلى تخزينهما والاكتفاء بالتبادل التجاري بالمعادن الرخيصة.

فالذهب والدولار يؤهلهما للعب دور الأموال الجيدة، التي يمكن أن تؤدي إلى ارتفاع كبير مقابل الأموال السيئة، لكن عدم استعداد الولايات المتحدة إلى تطبيع سياستها النقدية يترك الباب مفتوحا على مصراعيه ليستعيد الذهب مكانه كعملة احتياطي ووضع حد للدورة النقدية التي بدأت لفك ارتباط الدولار بالذهب عام 1971 مع نهاية مؤتمر بريتون وودز بعدما توسعت الأموال الورقية بما لا يتناسب مع كمية الذهب التي كانت تدعمها فيما مضى.

فالسياسة النقدية التي لا حدود لها سوف تؤدي إلى جولة جامحة ومضطربة للغاية، وإلى حدوث أزمات أكبر من أزمة عام 2008 التي لا يزال العالم يحاول الخروج منها، وإلا ستكون الفرصة مناسبة لعودة الذهب، إذا لم تتمكن البنوك المركزية من البحث عن تصميم نموذج سلس للتحديات الحالية والمقبلة.

وفي ظل السياسة النقدية غير التقليدية المدخرون أول الخاسرين، حيث عكست الأزمة المالية عام 2008 ومن قبلها أزمات عديدة فداحة الرأسمالية أنها بحاجة إلى رأسمالية أخلاقية، حيث أفاد تقرير أوكسفام بأن 1 في المائة من سكان المعمورة يمتلكون ما يقارب نصف ثرواته البالغ قدرها 110 تريليونات دولار أي تساوي 65 ضعفا ما يمتلكه النصف الأفقر من سكان العالم البالغ 7 مليارا نسمة في الوقت الحاضر، و85 شخصا يمتلكون 1.7 تريليون دولار تعادل نصف ثروة سكان العالم الفقراء البالغ 3.5 مليار نسمة.

في النظام المالي وفق أسس وقواعد الشريعة الإسلامية التي تركز على العدالة، فنجد هناك أسس ومبادئ وقد فرق الإسلام بين البيع والربا ( أحل الله البيع وحرم الربا )  وحرم أكل الأموال بين الناس ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) كما نهى عن كنز المال الذي يسمى في النظام المالي إيداع الأموال من أجل الفوائد ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) حيث أوجب الزكاة على الأموال المكتنزة ب 2.5 في المائة، ما يعني تآكل الأموال المكتنزة إذا لم يتم استثمارها بالزكاة، وحتى الاستثمار لا بد أن يكون في الإنتاج الحقيقي الذي يحقق عوائد أكثر من قيمة الزكاة، من أجل توزيع الدخول والثروات بصورة تلقائية وانسيابية في المجتمع حتى يتحقق قول الله سبحانه وتعالى ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) أي أن النظام المالي وفق مبادئ الشريعة الإسلامية الذي ينهى عن تكديس الأموال في أيدي فئة قليلة تؤدي إلى تقسيم المجتمع إلى طبقات، وتسلط طبقة على بقية الفئات.

نهاية موجة التفاؤل تجاه التسهيل الكمي والفائدة السلبية تحولت إلى تفاؤل سطحي إزاء مستقبل النمو، فثلثا الاستهلاك الأمريكي في عام 2014 يعتمد على الخدمات، بما في ذلك الإيجار، والرعاية الصحية، والتعليم، والرعاية الشخصية، وهي قطاعات من الصعب أن تختفي منها الوظائف، يعتبر تحول في تكوين الناتج نحو قطاعات حيث من الصعب زيادة الإنتاجية وهو سبب للتباطؤ.

معدلات النمو العالمي عند 3 في المائة يعتبر مقبولا، لكن هيكل النمو العالمي تغير، ما يعني أن إسهام التصنيع والتجارة العالمية منخفض، فانعدام النمو يعني أن تقييمات الأسهم ما يبررها، ويرى بعض المستثمرين العودة إلى الأسواق الناشئة، وأخذ الديناميات الداخلية في الحسبان مثل التنويع في اقتصاد السعودية وماليزيا، أو إعادة التوازن في الصين.

وبعد مرور ثماني سنوات على الأزمة المالية التي أرغمت السلطات على اعتماد تدابير تحفيز غير عادية، فمجلس الاحتياطي الفيدرالي في طليعة الانتقال إلى السياسات النقدية الفضفاضة للغاية بعد الأزمة المالية العالمية، وتبعه في وقت لاحق نظراؤه من البنوك المركزية في أوربا واليابان، كان أحد أهدافه هو خفض العائدات المتاحة على الأصول الآمنة، فمثل السندات الأمريكية انخفض العائد عليها لأجل عشر سنوات من 2.3 في المائة إلى 1.5 في المائة خلال عام 2016 ( قيمة السندات في الدول المتقدمة ما قيمته 12 تريليون دولار، بينما قيمة السندات في الدول الناشئة نحو 800 مليار دولار فلن تمثل سوى بديلا محدودا ) على أمل تشجيع المستثمرين على تحمل المخاطر ودفع عجلة النمو في الاقتصاد الحقيقي، رغم أن هذه السياسة نجحت جزئيا.

وبدلا من التوجه نحو الإصلاحات الهيكلية الداعمة للنمو في الاقتصادات الناشئة، فإن كثيرين يعتقدون أن القوة الدافعة وراء التدفقات الاستثمارية الداخلة في مجلس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، وهناك اعتقاد بأن موقفه من سعر الفائدة المنخفضة لمدة أطول قد تحول إلى سعر فائدة أقل إلى الأبد.

توقعات رفع أسعار الفائدة عام 2015 دفعت الدولار إلى أعلى مستوياته منذ 12 عاما بنحو 9.3 في المائة، ومنذ بداية عام 2016 انخفض بنسبة 1.3 في المائة، قرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إعادة ترتيب وجهات نظره لأخذ العوامل العالمية في الحسبان، الاختلاف في النهج هو أنه حيثما كان استقرار الأسعار بمثابة الصلاحية الأساسية للبنوك المركزية، كان يهيمن عليه الاستقرار المالي، والاحتياطي الفيدرالي الأمريكي متردد نحو رفع الفائدة بأن تتسبب في تقلبات السوق، وحتى الزيادة الصغيرة سيكون لها تأثير سلبي قوي على الأسواق والخطر أن تتسبب في رد فعل سلبي يضغط على الاستهلاك الذي من شأنه إضعاف انتعاش الاقتصاد، كما أن الانسحاب المفاجئ لمملكة المتحدة من الاتحاد الأوربي الأمر الذي انعكس على قرارات رفع الفائدة الأمريكية بالسلب، وتأجيل خطط الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي منذ الرفع الأول في ديسمبر 2015.

فالاحتياطي الفيدرالي الأمريكي مهما كان الاقتصاد الأمريكي مرنا فهو حذر خصوصا وأنه يريد تحويل السياسة نحو تطبيع أسعار الفائدة من أجل السيطرة على الدولار.

التسونامي المالي العالمي الذي ضرب العالم في عام 2008 فرض على كافة الدول تحديات اقتصادية ومالية، في ظل الحاجة إلى دفع التنمية العالمية، فعقدت الدول المتقدمة والناشئة أول قمة لمجموعة العشرين في العاصمة الأمريكية واشنطن عام 2008 زمن الأزمة المالية، فتأسست آلية مجموعة العشرين، وأصبحت قمة مجموعة العشرين أهم منتدى عالمي للتعاون الاقتصادي العالمي من أجل تقليل المخاطر القصيرة الأجل التي سببتها الأزمة المالية.

 عقدت القمة عشر مرات، وهذه أول قمة تعقد في الصين في يومي الرابع والخامس من سبتمبر 2016 في مدينة هاتغتشو، خصوصا وأن الاقتصاد العالمي يمر بمرحلة تحول هامة مفعمة بالفرص والتحديات، خصوصا بعدما أدركوا أن فعالية الاعتماد على السياسات المالية والنقدية لتحفيز التنمية الاقتصادية أثبتت أنها غير ناجعة يوما بعد يوم، وفي نفس الوقت تختلف اتجاهات سياسات الاقتصادات الرئيسية، مما يجعل من الصعب على الاقتصادات الرئيسية تشكيل قوة جماعية، خصوصا في ظل تصاعد الحمائية التجارية العالمية، لذا يظل أمام بناء اقتصاد منفتح طريق طويل، رغم أنه منذ الأزمة المالية العالمية يتعمق اندماج اقتصاد الصين بالاقتصاد العالمي، مع تعاظم تأثيرها ودورها في نمو الاقتصاد العالمي.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق