الدور الوظيفي للدولة والمجتمع في سورية (2): في بنية السلطة الأسدية

ثالثاً- سورية في عهد الأسد الابن (2000-2013):

أ‌-    بنية السلطة:

ورث بشار الأسد دولة متهالكة تفوقه بمقاساتها الأمنية والعسكرية والحزبية، كانت مفصلة على مقاس فرد قائد، ذو كاريزما طغيانية، لم تتوفر في الأسد الوريث، الذي أعد على عجل لتسلم تركة والده، بل شكلت عبئاً عليه، سعى منذ البدء لإعادة صياغتها وتقزيمها لتتلاءم مع محدودية قدراته الإدارية والعسكرية والسياسية.

 فمع رحيل الأسد الأب، أصبحت المؤسسات التي أنشأها الأب، دون قائد يوجه أداءها، فغدت منفردة مستقلة بذاتها، ومع تعدد رجالات الأسد الأب القادرين على تولي منصبه، كان من الممكن نشوب صراع بين هذه المؤسسات على السلطة، غير أن توافقاً على شخصية الأسد الابن كوريث للسلطة، هو ما أوقف ذاك الصراع حينها.

وعلّ هذا التوافق نابع من أن معظم قيادات المؤسسات الأمنية والعسكرية (باستثناء قلة منهم مصطفى طلاس) يستند إلى المؤسسة الطائفية والتي لعبت دوراً في كبح جماح صراع كان من الممكن أن يدفع بالسلطة خارج هذه المؤسسات. وعليه تم التوافق على شخصية الأسد الابن كمركز توازن لهذه المؤسسات لا أكثر، دون أن يكون قادراً على أداء دور والده في ضبط هذه المؤسسات وتوجيه سلوكها منفرداً.

إدراك الأسد الابن ومحيطه العائلي لمعادلة التوازن هذه، دفعتهم لانتهاج سياسة الحد من سلطان هذه المؤسسات تدريجياً وببطء شديد، وإفساح المجال أمامهم للانشغال بصفقات الفساد بعيداً عن السلطة، في مقابل تشكيل لوبي عائلي بين آل الأسد وآل مخلوف مع بعض رجال الأعمال، للسيطرة الاقتصادية والسياسية على البلاد دون الاحتكاك بمراكز القوى، والتي تم تنحية العديد منها ببطء على مر سنوات عشر. تمّ له ذلك خصوصاً بعد أن قلب الطاولة على رأس عائلته ذاته، في تغيير لمراكز القوة التي كانت تتفوق عليه، وإقصاؤها من المشهد العائلي والسياسي والاقتصادي، لصالح مراكز قوى تدين بالولاء له.

يمكن إيجاز ما تم، بأنه لم تعد هناك دولة حقيقية بقدر ما كان هناك صراع بين كل القوى فيها على اقتطاع نصيب من تركة الأسد الأب.

فرغم تحول العلويين عن الجيش في هذه المرحلة بشكل تدريجي، باتجاه الوظائف الإدارية العليا والدبلوماسية، عبر معاملة تفضيلية غير مسبوقة، إلا أن النظام احتفظ بهرمية تستبقي المهام العليا ضمن الجيش بيد ضباط علويين يدينون بالولاء لعائلة الأسد.

أما على مستوى حزب البعث، “فعلى عكس حافظ الأسد الذي كان يمجد البعث في كل ظرف وكل مناسبة، بدا الحزب غائباً تماماً في خطابات بشار الأسد. فليست له تجربة النشاط السياسي التي كانت لوالده في إطار حزب البعث قبل أن يصل إلى السلطة- ياسين الحاج صالح”. إلا أن الحزب احتفظ بمكانته المركزية في نظام المحسوبية والزبائنية.

وبعد أن كانت السيطرة على البرلمان تتم وفق توجيهات الأسد الأب كمكافئات ولائية، وضعت أجهزة الأسد الابن سقفاً من دورتين أو ثلاث، وروّجت لمرشحين معروفين بالفساد وانعدام الصدقية. بل وصلت المبالغ المطلوبة لصالح كبار الضباط الأمنيين وضباط القصر الجمهوري مقابل الحصول على مقعد في البرلماني إلى حدود 30 مليون ليرة سورية، أي بحدود 600 ألف دولار أمريكي. حيث تحولت الانتخابات البرلمانية إلى مواسم إثراء لكبار الضباط.

ومع اندلاع الثورة في سورية، لم يكن اللوبي الذي أنشأه الأسد الابن، قادراً بمفرده على إدارة الصراع مع الثورة، ليتم اللجوء إلى المؤسسات الثلاث ثانية (الأمن، الجيش، الحزب) تحت إدارة مؤسسة الطائفة العلوية، وإطلاق يدها ثانية في قمع المظاهرات وتصعيد استخدام السلاح، لتبدأ المؤسسة العسكرية بالتفكك مع أولى الانشقاقات التي توالت لاحقاً وبزخم مرتفع. ومعه بدأ انكسار أول أركان هذا النظام. فيما اندمج الركنان الآخران (المؤسسة الأمنية، والطائفة) كركن واحد في مواجهة الثورة السورية.

وقد سرّع الأسد الابن من هذا الاندماج عبر ضخ أعداد كبيرة من شبيحة الطائفة في أجهزته القمعية، اعتقاداً منه أن الحالة العصبوية الطائفية، هي التي ستعزز أركانه وتدفع به إلى مزيد من الصمود، وخاصة أنه مع تلك الانشقاقات العسكرية، قد فقد الثقة في ولاءات الآخرين من خارج هذه العصبة، مما قد يدفع بالمزيد من أركانه من خارج هذه العصبة إلى الانشقاق.

بل إن الطوق العصبوي الذي سعى النظام لفرضه، شهد تصدعات داخلية عدة، على الأقل على مستوى نخب فكرية من تلك التي كانت وما تزال رافضة لهذا الطوق ولهذا المنطق، مما قد يدفعه للتحول في لحظاته الأخيرة إلى حالة عصبوية عائلية مع بعض التحالفات المحدودة. في دفاع عن مصالح شخصية، وخشية من المحاسبة عما ارتكبوه خلال الأعوام السابقة.

حزب البعث نفسه، على ما حلّ به من ترهل وفقدان للأدوار الوظيفية، استخدم هو الآخر في تعبئة فئات مجتمعية في مواجهة الثورة السورية، سواء عبر المراقبة الأمنية للشباب الناشط في الثورة، أو حتى الانخراط في العمل العسكري على مستوى “الشبيحة”.

وقد احتفظ الأسد الابن بالدستور الذي أرساه والده، كمرجعية تجعل كافة السلطات بيده، ولم يجرِ أية تغييرات فعلية عليه، حتى عام 2012، حين أعاد صياغته فقط، مع الاحتفاظ بذات السلطات، وإن كان قد نحى بشكل دستوري دور حزب البعث، المتهالك فعلياً. وعوضاً عن فتح المجال أما التعددية السياسية، كانت الأبواب مشرعة لبديل عنها عبر التعددية الاقتصادية، المتمأسسة على يد البيروقراطية التي أثرت على حساب المال العام، إضافة إلى تحالفات بين عائلة الأسد ورجال أعمال تم تدجينهم بشكل جيد.

أ‌-     وظائف السلطة وأدواتها:

رغم كل الصراعات التي نشبت منذ رحيل الأسد داخل السلطة، إلا أن السلطة/الدولة، احتفظت بالوظائف الأساسية الموكلة إليها في الحالة الأمنية، ليس حفاظاً هذه المرة على الدولة والسلطة، ولا نتيجة خشية من شخص الحاكم كما كان الوضع قائماً إبان الأسد الأب، بقدر ما هو تحول إلى نوع من المحافظة على المصالح الشخصية للمؤسسات شبه المستقلة داخل الدولة، ومصالح الشخصيات الكبرى التي تديرها. مع مراعاة مصالح اللوبي الخاص ببشار الأسد، الذي تتم إدارته عبر شقيقه ماهر وعبر رامي مخلوف.

إذ “شهد عهد الأسد الابن ازدهار قطاع رأسمالي ليبرالي أشبه بالمافيا .. إنه رأسمال الأصدقاء .. يصحبه استمرار التسلط الذي يجعل من النظام البعثي نظاماً استبدادياً- إليزابيت بيكار”.

وأصبح الوسط الجديد يعيش على الجشع وحب المكسب بالدرجة الأولى، ومع تفوق المصالح الخاصة في عائلة الأسد، ازدادت الخلافات في دوائر السلطة وفي النظام السوري، وخاصة عندما عزلت سورية على الساحة الدولية، حينها ووفقاً للمنطق العصبوي غدا كل من يعارض خيارات العائلة معرضاً لفقدان كل شيء بين ليلة وضحاها.

في المقابل، استقالت السلطة من كثير من وظائفها تجاه المجتمع، عبر التخلي عن سياسات الدعم المنتهجة سابقاً، والتي كانت تهدف إلى استيعاب نقمة الشارع على تردي الأوضاع، والتخلي كذلك عن سياسات استيعاب العمالة عبر الوظائف الحكومية فيما يشبه البطالة المقنعة، لتنخفض قدرة الدولة الاستيعابية، كذلك تم التخلي عن دور الضابط للأسواق عبر منحها للطبقة النيوليبرالية المصطنعة، سواء عبر نهب المال العام، أو عبر التحالف مع مصالح العائلة، من خلال توظيف آلية تفصيل القوانين الحمائية لهذه العناصر.

“لقد أوصلت السياسات الاقتصادية الليبرالية التي تم اتباعها في السنوات الأخيرة سورية إلى ما يمكن دعوته بـ “مجتمع المخاطر”، حيث تولدت عناصر الاحتجاج من خلال تزايد الفجوة بين الدخول والثورات، وتزايد أعداد العاطلين عن العمل خاصة بين الشباب، واتساع دائرة الفقر، وانتشار ظاهرة الفساد والإفساد، وعدم التقيد بالقوانين وصولاً إلى إضعاف الاقتصاد بهدف إضعاف الدولة تجاه ما يطلب إليها من الخارج، في حين تقوى القبضة الأمنية تجاه مطالب الداخل، ونجم عن ذلك، احتكار الاقتصاد من قبل القلة على حساب الأكثرية- منير الحمش”.

وما يؤشر إلى ذلك أن 34.3% من السكان باتوا تحت خط الفقر 2010، إضافة إلى أن 16.5% ممن السكان أصبحوا في حالة بطالة 2009. إلا أن هذه الأرقام لا تمثل تعبيراً حقيقياً عن الواقع، وخاصة في ظل تعتيم حول حقيقتها، عدا تخلف إجراءات الإحصاءات وعدم مصداقيتها.

بل وشهد المجال الاقتصادي، دخول العسكر ورجالات الأمن عبر المضاربة بما تم جنيه خلال السابقة، لعل ذلك كان الدافع وراء ارتخاء القبضة الأمنية التي خلقها الأسد الأب، إضافة إلى حالة المنافسة بين تلك الأجهزة بهدف إقصاء بعضها، خاصة عن المجال الاقتصادي.

إذ أدى نظام المراقبة المتبادلة الذي وضعه حافظ الأسد، واحتفظ به ابنه، إلى منافسة شرسة في عهد الابن، أفضت بدروها إلى مزايدة على المستوى الأمني. حيث وعلى سبيل المثال، دفع الصحفي إبراهيم حميدي مدير مكتب صحيفة الحياة في دمشق ثمن هذه المنافسة، إذ اعتقل عام 2002 نتيجة المنافسة بين اثنين من رؤساء الأجهزة الأمنية، وقد أتت هذه المنافسة على فعالية الأجهزة الأمنية.

أما على مستوى الوظيفة الخارجية، فقد انحسر الدور الوظيفي للدولة السورية كثيراً، عن ذاك الذي أنشأه الأسد الأب، وخاصة مع تغير التوازنات الإقليمية في الشرق الأوسط، هذا ما دفعه سريعاً إلى الانخراط في الحملة الأمريكية في مكافحة الإرهاب، بداية.

لكن التململ الغربي، والأمريكي خاصة من النظام، دفعته إلى تقديم التنازلات في عدة ساحات، كان أبرزها إنهاء احتلاله للبنان، مقابل الاحتفاظ بالسلطة، والإبقاء على شكل نظامه، الذي أجرى عليه تغييرات ليبرالية توطد علاقات مع قوى اقتصادية في الخارج، تسعى بدورها إلى توفير دعم له في أزماته المتتالية داخل سورية وخارجها.

ولم تكن ورقة “المقاومة والممانعة”، سوى آلية للتفاوض على استمراريته، وخاصة أنه طالما طرح استعداده للتخلي عن حلفائه غير المرغوب بهم، مقابل تسوية مع إسرائيل تضمن له استمراريته، وخاصة أنه حافظ على هدوء الحدود مع إسرائيل من الجانب السوري.

ذات الآلية، استخدمها في مناورته مع المجتمع الدولي إبان الثورة السورية، فكلما كانت تشتد الضغوطات المفروضة عليه، كان يسعى لتقديم جملة من التنازلات للولايات المتحدة وإسرائيل، مقابل غضّ الطرف عن سلوكه الإجرام تجاه المجتمع السوري.

ج- مصادر شرعية السلطة:

تخلخت معظم الأسس التي اعتمدها الأسد الأب كمصادر للشرعية في عهد ابنه، فرغم أنه حافظ على الشرعية القومية، والآليات القميعية في تبرير حكمه في السنوات الأولى؛ إلا أنه لم يعد بحاجة إلى أية آلية حقيقية بعد تصالح مع القوى الغربية في النصف الثاني من العقد الماضي.

عدا عن جملة تحالفاته العائلية والطائفية والرأسمالية التي كانت تؤمن له جميع مصالحه التي ينشدها، وتحمي استمرارية نظامه. لذلك لم يستطع استيعاب انطلاقة الحدث الثوري، ليدفع بقوته العسكرية والأمنية مباشرة في مواجهة المجتمع دون أن يلقي أي اعتبار لمآلات ذلك. خاصة بعد طرح تقسيم إضافي لمفهوم المجتمع يمنح مؤيديه صفة المواطنة، وينزعها عن جميع من يعارضه، وبالتالي يبرر الإبادة الشاملة لمعظم مناطق سورية.

                                                                                                                                 (يتبع)

 

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

خاص بمركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

الوسم : سورية

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق