التمظهر الدينيّ في سورية: ما بين داعش وحالش

تشهد الثورة السورية –كسواها من الثورات- انحيازاتٍ قيمية ترتبط بالموروث الثقافي-الاجتماعي، تؤسِّس لإعادة تَشكُّل الهُويّة الجمعية للدولة ومواطنيها، فالثورة في حدّ ذاتها، حِراك هُويّاتِيٌّ يسعى إلى إعادة تشكل القيم والتوجهات العامة.

ويعتقد بعض المحللين أنّ ظاهرة الانحيازات الدينية المشوَّهة في الثورة السورية، حديثة، تظهر باعتبارها إمّا نتاجاً للإخفاقات في استكمال الحراك الثوري نحو إسقاط النظام، وخاصّة مذ سكت الغرب عن استخدام الأسد للسلاح الكيماوي (في الجريمة الدولية الموثّقة في غوطتي دمشق).

وإما طبعاً مُتأصِّلاً في الثورة وفقاً لمناهضيها، يمنعها من إسقاط النظام وبناء دولة مدنية معاصرة. ويستشهد الطرف الثاني للدلالة على طرحه، بانطلاق الثورة في حراكها الاحتجاجي الأولي من المساجد، ورفعها شعارات بعضها يحمل مدلولات دينية.

كلا الطرحين يتجاوز طبيعة البِنيَة الثقافية للمجتمع السوري، وارتباطها -كسواها من البِنيَات الاجتماعية- بالمعتقد الديني الخاص بها، دون أن يشكِّل عائقاً أمام استمراريتها. كما يحاول هذان الطرحان أن يؤسِّسا –عن عمد أو عن جهل- لفكرة التطرّف السني في مواجهة الآخر، وبالتالي إسقاط استحقاق الحرية عنه، أو تأجيله إلى حين الانتهاء من إعادة تشكيل المجتمع ومعتقداته على يد الأسد، من خلال تصفية الحامل الاجتماعي السني، حامل فكرة “الإيمان”.

وبتفحص سريع للمسار الثوري وارتباطاته الدينية، يظهر الدين في المجتمع السني، طيلة العقود الماضية، كهُويّة حمائية، ، بعد أن تخلت السلطة عن دورها الحمائي، بل وتحولت إلى المهدد الأول لاستقرار المجتمع وأمنه، بعد الثورة، ثم تَحوُّلها إلى تحدي معتقداته -التي حاربتها منذ العَلمَنة البعثية الثانية، أو العَلمَنة الطائفية، ودَفعُها الحراكات الاجتماعية إلى ملاحظة خطوط الفصل الديني بين السلطة والمجتمع اولاً، وتبنِّيها لاحقاً، قبل الاشتغال عليها وتوسيعها.

في وقت كانت السلطة أقدر على إنجاز ما تسعى إليه، لمركزيّتها ووضوح برنامجها، في عملية تصفية شاملة للحراكات تلك، مقابل طغيان التيار العاطفي على التظاهرات في مطلعها، وقابلتيه للانسياق في أفخاخ النظام السياسية والدينية، وخاصة بعد تعمُّد النظام التطاول على المعتقد الديني للمجتمع السني: تدنيس القرآن الكريم والمساجد، هدم المساجد، التطاول على الذات الإلهية وعلى النبي محمد، التطاول على النساء المحجبات، ملاحقة الناشطين إلى داخل المساجد وتصفيتهم فيها –وهو ما لم يجرؤ الاحتلال الفرنسي على القيام به-، عدا عن استعارة بعض الأدوات الثورية –شعارات الجدران- في هذا النهج،  من قبل الأجهزة الأمنية، من خلال ملء جدران المدن بشعارات تهين الآخر دينياً وتتطاول عليه. بل حتى إنّ الجهاز الأمني للنظام قد عمد إلى ترويج مقولات تتطاول دينياً على مجتمعه الطائفي المنغلق، بغية الاستزادة في التحريض والتعبئة المضادة.

واتخذت حالة التعبئة عبر التوظيف الديني أبعاداً أوسع، منذ أن تمّ الإعلان –المبرمج- عن مشاركة ميليشيات حزب الله اللبناني، والميليشيات الشيعية العراقية والإيرانية وسواها، في عملية إسناد الأسد، تحت شعارات “لن تسبى زينب مرتين” و”لبيك يا حسين”، وغيرها من التي استحضرت تاريخاً –مصطنعاً- من العداء الشعبوي الشيعي-الفارسي لمحيطه السني أولاً، والعربي عامة.

لكن في المقابل، تحتاج عملية التعبئة والتجييش المجتمعي، إلى عامل موازن لها على الأرض، مقابل لها في القوة والاتجاه، وهو ما لم تنجزه جبهة النصرة للأسد، رغم تشددها الديني، ومنهجها الصارم في التعامل مع القضايا الشرعية. حيث كان من المنتظر منها سلطوياً، أن تُمثِّل ردَّة الفعل المجتمعية السنيّة، والتحوّل إلى حالة جماعية نحو التطرف، وأن تُمثِّل كذلك البِنيَة الفكرية الجديدة للمجتمع السني بشكل جمعي.

إخفاق الأسد في توظيف جبهة النصرة دعائياً، باعتبارها إحدى تشكيلات تنظيم القاعدة، كموازن لتطرفه الديني، رغم التصنيفات الدولية والعربية لها ضمن المنظمات الإرهابية، وعدم الانزياح بشكل جماعي كُليّ نحوها، دفعه إلى استحضار، أو استحداث، نموذج أكثر تطرفاً، وأكثر فاعلية في الناحية التسليحية، والتحوّل إليه في البرنامج الدعائي الديني.

وعليه، نجح الأسد لأشهر محدودة، في توظيف حضور داعش، أو الدولة الإسلامية في العراق والشام، عبر ماكينة إعلامية ضخمة، خّصصها لترويج فكر داعش، ومجازرها، ونهجها الديني في التعامل مع المجتمع السوري، مقابل تجنب إلحاق أيّة خسائر عسكرية بمقراتها وأفرادها. فيما التزمت هي بمحاربة فصائل الجيش الحر، ومطاردة الناشطين الثوريين وتصفيتهم. ما شكّل في مرحلة ما، عامل إطباق على الثورة في حلب وريفها، ما بين داعش وقوات النظام معززة بحزب الله –حالش-، قبل أن تنكشف ارتباطات داعش الأمنية بنظام الأسد، بل وحتى بإيران وروسيا، ويفقد قدرته التوظيفية لها، على الصعيد الدولي على الأقل.

ليس من المتوقع أن تنتهي حالة الحشد الديني، والحشد المضاد، في المستقبل المنظور، وخاصة أنّ تداعيات هذا الحشد، تجاوزت مسألة الثورة السورية، إلى محيط إقليمي واسع تتقاطع فيه الملامح الاستراتيجة لكافة الدول الفاعلة، وما زال للعامل الديني وظائفٌ يُنتَظَر أن يقوم بها في إعادة تشكيل السياسات الإقليمية، أو حتى الجغرافيا الإقليمية. ويبقى ذلك رهنٌ بالمحصلة التي ستبلغها الثورة السورية، سواء لناحية تسوية سياسية لا أفق لها بعد، أو لناحية حسم عسكري لم تكتمل أركانه حتى اللحظة.

وإن كان مصير ميليشيات داعش مرتبطاً –بشكل رئيس- بمدى قدرة قوات الجيش الحر على مواجهتها، فإنّ مصير حالش يبدو أكثر تعقيداً لارتباطه بتلك التسويات الإقليمية المقبلة، وبالمشروع الإيراني في البيئة العربية ككل.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

خاص بمركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق