أثر العمالة الأجنبية في الهوية الخليجية

مقدمة:

شكلت سواحل الخليج العربي والمناطق المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، مناطق جذب عبر العصور الماضية لكثير من الجاليات الأجنبية، التي اندمجت في المجتمعات المحلية، وتم تعريبها، واكتسبت الخصائص المجتمعية، قبل اكتساب حق المواطنة الكاملة. فعديد من العائلات الخليجية يعود بجذوره إلى مناطق شرق آسيا أو وسطها، أو منطقة القوقاز، وإلى إفريقيا.

غير أن التدفق السكاني كان محدوداً في العصور الماضية، عدا عن دمجه كلياً في المجتمعات المحلية، ويختلف عن التدفق الحالي منذ العقود الأخيرة في القرن العشرين. والذي امتاز باتساع كبير ومطرد في حجمه، على شكل عمالة مؤقتة، أدت إلى تغييرات كبيرة في بنية المجتمع الخليجي.

وتتناول هذه الدراسة، أبعاد وجود العمالة الأجنبية في دول الخليج العربي، من خلال المحاور التالية:

–         الحضور الأجنبي في دول الخليج العربي.

–         الأبعاد الهوياتية والثقافية للعمالة الأجنبية.

–         الأبعاد الاقتصادية للعمالة الأجنبية، والاستملاك الأجنبي.

–         الأبعاد الأمنية للعمالة الأجنبية.

–         الأبعاد السياسية للوجود الأجنبي، والتوجهات الدولية.

–         خاتمة وتوصيات.

أولاً- الحضور الأجنبي في دول الخليج العربي:

تشكل دول مجلس التعاون الخليجي منطقة جذب بشري كبرى، على المستوى العالمي، وخاصة في العقود الأخيرة من القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، مع ارتفاع أسعار النفط من جهة، وتوسع مشاريع تحديث هذه الدول بخطط ترمي إلى نقلها إلى دول ذات سمات عالمية من جهة أخرى، وهو ما أدى إلى خلل سكاني كبير طيلة هذه الأعوام.

وكانت قد بدأت ظاهرة استقطاب العمالة الوافدة بشكل منظم مع حقبة التواجد البريطاني في المنطقة في القرن التاسع عشر، بشكل محدود النطاق والأهداف، وتركزت في تعزيز عناصر قوات الأمن، بالإضافة إلى كوادر الطبقة الإدارية. ثم تغير منحى الأمور بشكل كلي مع اكتشاف النفط في المنطقة عام 1931، وتحولت شبه الجزيرة العربية إلى حلقة رئيسة في الاقتصاد العالمي، حيث تزامن اكتشاف النفط في المنقطة مع تحوله إلى أهم سلعة في الثورة الصناعية التي اجتاحت العالم بعد الحرب العالمية الثانية. وتركزت العمالة الوافدة في هذه الفترة بشكل أساسي في القطاع النفطي، فمن أعداد لا تتعدى الألفين عام 1940، نما عدد العمال الوافدين في القطاع النفطي في المنطقة ككل إلى 16 ألف في عام 1950، حيث انحدرت الأكثرية من الهند والدول الغربية (1).

تلا ذلك عملية تحديث ضخمة اجتاحت هذه الدول، تطلب كماً كبيراً من العمالة المؤهلة غير المتوافرة في المجتمعات المحلية.

فتمت تلبية الطلب المتزايد للعمال عبر استقطاب الأيدي العاملة الأجنبية بشكل موسع، ولكن تمت السيطرة على هذه الفئة عبر قوانين وتشريعات قيدت قدرتهم على بناء النفوذ والاندماج الاقتصادي أو السياسي، وجعلتهم في حال من عدم الاستقرار والتغير المحتمل الدائم. فمع تطور الفترة أصبحت نسبة الوافدين غير العرب تزداد، حيث نُظِر إليها بأنها أقل كلفة وأقل خطراً سياسياً وأمنياً من نظيرتها العربية. وهكذا أصبح الهدف الأساسي للتركيبة السكانية في دول الخليج هو توظيفها لخدمة متطلبات رؤوس الأموال المستثمرة والفئة التي تتحكم فيها، حيث أصبحت المنطقة أقرب إلى معسكر عمل، توجهها الرئيس يتمحور حول تدوير عوائد النفط والتغيرات الاقتصادية المتسارعة، من دون أن تتبلور قوة اقتصادية-سياسية للعمال (2).

إلاّ أن التدفق العمالي الذي شهدته المنطقة في العقدين الأخيرين، كان أضخم من كل ما سبقه، وبلغ مستويات يناهز فيها عدد السكان الكلي لدول الخليج العربي.

إذ تأتي العمالة الأجنبية من بلاد شتى، ويقدر عدد جنسياتها بما يتجاوز 150 جنسية، ويقترب في ذلك من عدد دول العالم المقدر بـ 200 دولة. ويأتون في معظمهم من شبه القارة الهندية. والجسم السكاني الأجنبي ليس بالجسم المتماثل والموحد من الناحية الإثنية والثقافية والدينية. وهو أقرب إلى موازييك اجتماعي وإثني، وينقسم بين أقلية عربية قد لا تتجاوز نسبتهم في أحسن حالاتها 10% من إجمالي الجسم السكاني المهاجر، وأكثرية أجنبية من آسيا وإفريقيا وأوروبا (3).

sokan-kalij

وتشير الأرقام المتوافرة إلى أن معدل الزيادة في السكان في دول المنطقة خلال الفترة الممتدة من 2003 حتى عام 2010 قُدِّر بحوالي 18.4%، وإلى أن هناك مليوناً جديداً يضاف إلى سكان المنطقة كل عام، جلّه بسبب زيادة الطلب على العمالة الأجنبية. بل إن بعض دول المنطقة ارتفع عدد السكان فيها خلال الفترة 2003-2012 من بضع مئات من الآلاف إلى ما يتجاوز المليون أو المليون ونصف المليون من السكان، كما في حالتي البحرين وقطر، وهما الحالتان اللتان تحملان في طياتهما تحولات مهمة على صعيد الفضاءات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية (5).

sokan-kalij2

فيما لم تلتزم أي من الدول الخليجية بالسقف المحدد لعدد العمالة الوافدة المسموح به، حيث كان وزراء العمل الخليجيون قرروا ألا تتجاوز تلك النسبة 20% من إجمالي عدد السكان (7).

 

ثانياً- الأبعاد الهوياتية والثقافية للعمالة الأجنبية:

يضع الحضور الكبير للثقافات الأجنبية في دول مجلس التعاون الخليج الثقافة العربية نفسها في موضع الخطر، فالوافدون يحملون معهم مختلف أنماط القيم والمفاهيم والتصورات والأذواق والمعايير الأخلاقية والثقافية لبلدانهم الأصلية. وإذا كانت أغلب دول العالم تحاول أن تذوِّب وتصهر ثقافة الوافدين والمهجرين والأجانب في دائرة ثقافتها، وأن تعمل على تحييد حضورهم الثقافي لبلدانهم الأصلية، وأن تجعل من اكتساب اللغة القومية أو الوطنية شرطاً أساسياً من شروط قبول وتأهيل هذه العمالة، فإن قانونية الفعل الثقافي –كما هو الحال في أغلب دول الخليج العربي- تأخذ اتجاهاً معاكساً، إذ نجد أن ثقافة الأغراب والمغتربين تفرض نفسها وتحقق هيمنتها على الثقافة المحلية والوطنية. ومن الملاحظ على سبيل المثال أن اللغة الإنجليزية قد أصبحت لغة التفاهم في أغلب دول الخليج العربي (8).

ففي كل من الإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين وعمان، أصبحت اللغة الرئيسة للأعمال والإدارة هي الإنكليزية (وفي الإمارات، حيث لا تتعدى نسبة العرب ككل 28% بمن فيهم المواطنون، وحيث وصل عدد الوافدين من دول الهند وحدها إلى 42.5%، أصبحت اللغة العربية تأتي في المرتبة الثالثة أو أدنى) (9).

لقد فرضت الأنماط الثقافية الوافدة حضورها المميز في مستوى الأذواق والقيم والتصورات حتى أصبحت الثقافة الوطنية هامشية في كثير من أنماط الحياة والوجود. ورغم أن الاحتكاك الاجتماعي بين العمالة المهاجرة إلى دول الخليج العربي والسكان المحليين محدودة نسبياً، إلاّ أن ذلك لا يمنع تأثير الثقافة الوافدة من ممارسة تأثيرها الثقافي في القيم الاجتماعية للثقافة العربية في الخليج. ومن المؤكد أن كل الدول النفطية تتعرض لدرجة من النقل الحضاري، أي لإدخال أنماط سلوكية وعادات وتقاليد عن طريق الوافدين، وتتوقف أبعاد هذه العملية وآثارها على مدى التعددية السكانية، ومدى تجانس تكوين مجتمع الوافدين، ودرجة اختلاط المواطنين مع الوافدين (10).

إن ما حصل مع هذا التدفق الأجنبي، هو عملية انزياح للهوية العربية في دول مجلس التعاون الخليجي، عوضاً عن تحديثها، ففيما كانت الدول كافة تسير في منحى تصاعدي متسارع في تحديث البنى التحتية، بالاعتماد على العنصر الأجنبي، فإن الثقل الهوياتي انزاح تدريجياً، وما زال، باتجاه تلك الهويات الأجنبية، التي قد تطغى في المدى المتوسط على الهوية العربية المحلية.

كما أدت التطورات الشديدة لمدة عقدين ونصف إلى وضع الثقافة والتقاليد العربية في حالة من التغير والتقلب الكبير المتواصل. وبالنسبة إلى العديد من المواطنين العرب المحليين، هناك خوف حقيقي من أن التدفق السريع للأجانب والتكنولوجيا الحديثة المقترنة بالتغيرات العميقة في بيئتهم العمرانية يعمل على تغيير مجتمعهم القبلي بطريقة جذرية وقاسية. وفي حين أن التمثيل الثقافي أداة فعالة جداً في تعريف المدن وجعلها صالحة للسكن بالنسبة إلى سكانها المحليين، فإن الامتداد الحضري المحدود لمدينة دبي مثلاً، قبل اكتشاف النفط سرعان ما طغى عليه التطور العمراني المتجانس عالمياً في الظاهر. ويقر المخططون في بلدية دبي بأسف بأن الاندفاع في التطور لم يترك الوقت الكافي للتأمل في مكان الهوية الثقافية في البيئة الحضرية (11).

وانعكست ظاهرة الخلل السكاني بشكل جذري على مستوى المجتمع بشقيه من المواطنين والوافدين، فكانت السمة الأساسية في بروز نوع حاد من الاغتراب، ونعني بمفهوم الاغتراب هنا، هو عدم انسجام الفرد بمحيطه، حيث يحس بأن مقومات بيئته لا تتلاءم مع كينونته. وهنا يمكن التركيز على المحيط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وحتى الوطني. فمن جهة المواطنين تقلص دور لغتهم وثقافتهم التاريخية، بالإضافة إلى تحولهم إلى أقلية في بلدهم، تفاقم من حالة الاغتراب التي تطوق المجتمع. أما الوافدون، فالحقوق المتدنية نسبياً من الناحيتين الاقتصادية والقانونية، فضلاً عن الاضطهاد الذي يتعرض إليه البعض منهم، بالإضافة إلى ضعف الاندماج في المجتمع ومعاملتهم في الأساس كسلعة في معسكر عمل مؤقت، يجعل الاغتراب حالة دائمة لهم (12).

وخاصة أنّ هوية الأشخاص والجماعات لا تندثر ولا تمحى، ولكن تصغر وتتماهى في الهويات الأكبر، وقد تتوارى بعض الوقت إلى أن يعاد إحياؤها أو استفزازها، فتخرج إلى السطح معبرة عن نفسها في أشكال من الصور والتمثلات التي تأخذ شكل اختلاف أو صراع قد يكون عنيفاً ومدمراً أحياناً. وتمثل شبكة علاقات الفرد الاجتماعية هوية الفرد أحياناً أو بعضاً من مركباتها، وهي في هذا تمثل مجموعة من المرجعيات المتباينة، ولربما المتضادة والمتصارعة، وتعبر عن نفسها في إطار الجماعة، وتبرز على السطح إذا ما شعرت بتهديد صادر عن فئة أو جماعة أو دولة (13).

 

ثالثاً- الأبعاد الاقتصادية للعمالة الأجنبية، والاستملاك الأجنبي:

مما لا شك فيه أن وجود العمالة الأجنبية يفرض نفسه في المجتمع بحكم عدد كبير من المعايير والموجبات والاحتياجات والعادات. لكن العمالة الوافدة تحولت مع الزمن من منطق الضرورة الإنتاجية إلى منطق الترف الاستهلاكي، ففي البداية تمثلت مهمة العمالة الوافدة في عملية البناء والنهضة والإنشاء والتعمير، ومع انتقال المجتمع إلى وضع الرفاهية تحولت هذه العمالة إلى نوع من العمالة الاستهلاكية والترفيهية، فالمنازل الخليجية تضج بالخدم من سائقين وخادمات ومربيات وطباخين، وبالتالي أصبح وجود الخدم بكثرة حالة اجتماعية تفرض نفسها لاعتبارات الوجاهة والترفيه والامتياز. وغالباً ما يكون وجود الخدم في المنازل أشبه بديكورات إنسانية ترتبط بالمظاهر العامة والخصوصيات الاجتماعية الدالة على الغنى والثراء والمجد. وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار النسبة الكبيرة للعمالة الترفيهية التي تبلغ حوالي نصف مليون من عمال الخدمة في الكويت وحدها على سبيل المثال، وفقاً لبعض الإحصائيات التقديرية. ومما يلاحظ في هذا السياق، وجود تحول في طبيعة هذه العمالة وفي بنيتها، إذ غلب عليها في البداية الطابع الإنتاج الإعماري، ولكنها بدأت تتحول تدريجياً إلى طابع استهلاكي، وبدأت موازين العمالة المنتجة المؤهلة تنخفض لحساب العمالة غير المؤهلة والاستهلاكية، إذ يلاحظ أن أغلبية هذه العمالة القادمة هي من النوع الخدمي غير المنتج أو غير الفاعل في الإنتاج الاجتماعي (14).

عدا عن أبعاد الاستنزاف المالي التي تتم في دول الاستقبال الخليجية، فبينما تتركز الحياة المعيشية والاقتصادية للمهاجرين في دول العالم الأخرى نتيجة حالة الطمأنينة والاستقرار الدائم، داخل دول الاستقبال، بحيث ينعكس على الدخل القومي للدولة ذاتها، وإن كان جزء منهم يخرج إلى المواطن الأصلية للمهاجرين. في المقابل فإن الطبيعة المؤقتة لهذه العمالة في دول الخليج العربي، وغياب عنصر الطمأنينة والاستقرا، تدفعهم إلى إرسال معظم دخلهم إلى ذويهم في مواطنهم الأصلية، بحيث يقتطع من الدخل القومي للدولة المستقبلة لهم.

كما أن هناك بعداً اقتصادياً آخر للوجود الأجنبي في دول الخليج العربي، يتجلى عبر التملك العقاري الذي بدأ يتسع في السنوات الأخيرة، وهو ما يرسخ حقوقاً اقتصادية تؤهل للمطالبة بحقوق سياسية في المستقبل.

إذ تمثل ظاهرة العقار الدولي نقلة نوعية وجوهرية في سياسات دول مجلس التعاون حول التركيبة السكانية، فحتى ظهور الألفية الجديدة، كانت التركيبة السكانية ناتجة بشكل رئيس من تدفق العمالة الوافدة إلى المنطقة. وكانت نظرة متخذي القرار والمستثمرين إلى الأعداد للوافدين في المنطقة مبنية على أنه “أمر لابد منه” لتفعيل النمو الاقتصادي في المنطقة، وبحجة أن قوة العمل المحلية غير مستساغة أو غير قادرة على تلبية احتياجات رؤوس الأموال المتسارعة في المنطقة. أما مع ظهور الألفية الثالثة وتبلور السياسات العقارية الجديدة فقد تحولت الرؤية إلى التركيبة السكانية في المنقطة من عنصر إنتاجي يتطلب تنظيمه وتقنينه، إلى مصدر طلب ليس على الدول استيعابه فقط، بل اجتذابه فعلياً وتصميم سياساتها ورؤاها حوله. وبهذا تبلورت على أرض الواقع مشاريع عقارية ضخمة تعبر عن رؤية اقتصادية جديدة، هدفها استقطاب مشتري العقار الأجنبي وتوطينه، وجعله شريكاً أساسياً في اقتصاديات ومجتمعات دول مجلس التعاون. ولم تكتف دول الخليج العربية بإعطاء الحق بتملك العقار للأجانب فقط، بل كان جزء أساسي من هذه الصفقة؛ ربط ميزة تملك العقار بالحصول على إقامات طويلة المدى للمشتري، بصرف النظر عن ظروف عملهم وحاجة الدولة إليهم. فإذا كانت المشاريع العقارية ذات التملك الحر قد أصبحت جزءاً رئيساً من توجهات دول المنطقة، فكان لابد من توفير كل ما أمكن من تسهيلات ومتطلبات لإنجاح هذا المشروع. وبهذا، أصبحت إمكانية الاستقرار في المنطقة على المدى البعيد هي الحافز الأساسي لبيع وشراء هذه المشاريع العقارية (15).

وإذا ما نظرنا إلى خصائص مشتري العقار الدولي عبر الإحصائيات المتوفرة في دبي، فتشير إحصائيات 2006 إلى أن إجمالي عدد المشترين العرب لا يتعدون 28%، بينما يأتي الباقي 72% من دول خارج الوطن العربي. ومن ناحية القيمة المدفوعة، فإن الفئة الكبرى للمشترين الأجانب هم من الجنسية الهندية 24%، تليها المملكة المتحدة 21%، ومن ثم باكستان 12% وإيران 10% (16).

وتتميز هذه الطبقة من السكان الجدد، بثرائها من جهة، وانتماء كثير منها إلى الدول الغربية من جهة أخرى. وهو ما يعني نقل مفاهيم المواطنة من دولهم إلى دول الخليج العربي، عبر آلية التملك ذاته، إذ يترتب على الإقامة الدائمة وعنصر الثراء في دول الخليج، هذه المجموعات السكانية، إلى المطالبة بتوسيع حقوقها السياسية والمدنية،والمشاركة في صنع القرار المحلي، للحفاظ على مكتسباتها، وفقاً للثقافة السياسية التي تحملها.

فيما ترى بعض التوصيات أنه “لا خوف” من قيام العمالة الوافدة بالاستثمار داخل الدولة، إذا تم هذا وفقا لتشريعات وقوانين ورقابة سلطات الدولة، وفي ظل وجود ضوابط لسوق الاستثمار وحركة رأس المال؛ إذ إن الاقتصاد المحلي سيحقق مكاسب جيدة في وقت تحقق فيه العمالة الوافدة عوائد حقيقية من تدوير مُدّخراتها في السوق (17).

ومن أهم ما يميز الرؤى الاقتصادية والمخططات الهيكلية في دول الخليج العربي، أنها كتبت بأيد أجنبية في أساسها، أما مساهمات المواطنين فيها فهي محدودة جداً. وهذه الظاهرة تنفرد فيها دول المجلس من بين كل بقاع العالم. فمن النادر أن تجد دولة تسلم إرادياً مبدأ رسم ووضع خطها الاستراتيجية إلى أيادٍ أجنبية بنفس الوتيرة التي تبنتها قيادات المنطقة. فقد لوحظ التوسع المطرد في عدد الشركات الاستشارية الأجنبية في دول المنطقة على مدى السنوات العشر الأخيرة، حتى أصبحت هي من تدير أغلب أنشطتها الاقتصادية والاستراتيجية. والقراءة المتأنية تبين لنا أن أغلب هذه المشاريع والمخططات موجهة بشكل مكثف نحو المشاريع العقارية والهوية الجديدة المتوقعة لهذه الدول (18).

 

رابعاً- الأبعاد الأمنية للعمالة الأجنبية:

شهدت دول الخليج العربي، عدة اضطرابات أمنية، كان المتسبب الرئيس في اندلاعها العمالة الأجنبية في تلك الدول. من ذلك احتجاجات البنغاليين في الكويت عام 2008. واحتجاجات الهنود ف البحرين، وإضرابات العمالة الآسيوية في مدينة دبي.

لكنها أحدثها كان المواجهات الأمنية بين الشرطة السعودية والعمالة الأفريقية عامة والإثيوبية بشكل خاص في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2013 في مدينة الرياض، بعد المهلة التي منحتها الحكومة السعودية للمخالفين لشروط الإقامة، حيث أن كثيراً من تلك العمالة قد وصل السعودية بطرق التهريب.

وقال شهود من رويترز إن قوات الأمن أطلقت الأعيرة النارية في الهواء واستخدمت الهراوات لتفريق الحشود حين ركض عشرات الرجال في الشوارع وألقى بعضهم الحجارة ومقذوفات أخرى على السيارات ورجال الشرطة (19).

وقد ارتبطت عدد من الجاليات الآسيوية والإفريقية بملفات إجرامية بعينها، كالمخدرات والدعارة وعصابات السطو المسلح والإرهاب، على شكل مافيات داخل الدول الخليجية. عدا عما تشهده البيوت الخليجية من جرائم يتسبب فيها العمالة المنزلية الأجنبية، من قتل وسرقة، أو توريط لأصحابها في جرائم أخرى.

خامساً- الأبعاد السياسية للوجود الأجنبي، والتوجهات والدولية:

تواجه دول مجلس التعاون اليوم التحدي الأكبر بين منظومات التحديات، وهو التحدي الحقوقي السياسي للعمالة الوافدة إلى الخليج العربي، إذ تدور في الأفق الأممي، وفي أروقة هيئة الأمم المتحدة فكرة توطين العمالة الأجنبية المهاجرة إلى دول الخليج العربي. وفي هذا التصور يبرز واضحاً في كثير من المؤسسات والجمعيات والمنظمات الحقوقية العالمية التي تطالب على الأقل بحقوق العمالة الوافدة، وتطالب لها بامتيازات لا تقل عن الحقوق المدنية للسكان الأصليين. هذا عدا عن الأهداف السياسية البعيدة المدى لهذه النداءات الحقوقية التي تسعى في حقيقة الأمر إلى إحداث تغيير في هوية التركيبة السكانية للدول العربية في هذه المنطقة (20).

إذ تشكل العمالة الوافدة، كما يعتقد كثير من الخبراء والمهتمين، خطراً كبيراً على الهوية السياسية والقومية للمجتمعات الخليجية. ويتجسد هذا الخطر فيما يتعلق بالممارسات السياسية ذات الطابع الدولي، والضغوط الحقوقية للمطالبة بالحقوق الإنسانية والاجتماعية والسياسية للعمالة الوافدة إلى الخليج العربي أسوة بما يحدث في بعض دول العالم المتقدم. وهذه الحقوق تشمل حتى الهجرات غير المشروعة وغير النظامية، فما يكاد المهاجرون غير الشرعيين يطأون بأقدامهم أرض تلك البلدان حتى يصبحوا أصحاب حقوق إنسانية واجتماعية تتيحها لهم الاتفاقيات الدولية ذات الطابع الحقوقي. وتشمل حقوق المهاجرين مجال التعليم والمساواة والمساعدات الاجتماعية، وتمتد لتشمل التمثيل السياسي في بعض البلدان (21).

وتدخل الأجندات الإقليمية لاستغلال ملف العمالة الأجنبية لتفعيله في أقطار مجلس التعاون الخليجي، حيث نرى إثر ذلك “العلاقات المتنامية بين بعض أقطار مجلس التعاون الخليجي (قطر) مع (إسرائيل)، ومصلحتها في إضعاف دول الشرق الأوسط، ومنها يتبين بعين الموضوعية التمهيد الذي يعد له من أجل تحويل أقطار الخليج العربية مستقبلاً إلى أقطار غير عربية بقرار دولي واحد يجيز لكل مقيم في أقطار الخليج أن يرشح نفسه، ويدلي بصوته ضمن نظام ديمقراطي، والمرجح أن تكون لغاتها الرسمية هي اللغة الإنجليزية لمحاكاة الواقع الديمغرافي والاقتصادي لها (22).

وتشير إحدى الباحثات والعاملات في المجال العمالي الدولي إلى أن “التخوف الأكبر لدى دول الخليج العربي ظهر بشكل جلي مع تبلور اتفاقيات دولية تنص في الكثير من الأحيان على ضمان الحقوق المدنية والسياسية للعمال المهاجرين والوافدين. وبرز التخوف الأكبر من الحق في التوطين والتملك، وحق عائلات هؤلاء العمال بالالتحاق بهم في دول المنطقة، ما يعني حدوث خلل سكاني أكبر لمصلحة العمالة الوافدة (23)“.

 

خاتمة وتوصيات:

يعتبر البعد الهوياتي للدولة، أهم أبعاد إنشاء المواطنة وتعزيزها، وإن كانت المواطنة في دول الخليج العربي راسخة، ومرتبطة بالأرض قبل تشكل الدول المعاصرة؛ فإن الدفق السكاني الأجنبي في العقود الأخيرة، انعكس في كثير من جوانبه على الحياة الاجتماعية والهوية الوطنية المحلية.

وحيث أن الضرورة تدفع هذه الدول إلى الاعتماد على العنصر الأجنبي، نتيجة جملة عوامل رئيسة، منها:

–         الانخفاض النسبي في عدد سكان هذه الدول، مقارنة بالمساحة والقدرات الاقتصادية والمالية.

–         ضخامة استراتيجيات البناء والتحديث لهذه الدول، بحيث تحتاج لطاقات بشرية هائلة.

–         ضعف تأهيل المواطنين في المراحل الأولى لتلك الاستراتيجيات.

لكن ذلك لا يمنع من البحث في آليات دائمة ومتجددة، لصيانة الهوية ذاتها، وتجديدها في إطار عملية البناء، وإن كان لابد لها من الاعتماد على العنصر الخارجي، فيمكن لها عندئذ:

الاستفادة من التطورات في أسواق العمل في دول المجلس، بخاصة في بعض الدول التي يظهر لديها فائض في العرض من العمالة المحلية، وذلك عن طريق تعزيز جهود فتح هذه الأسواق، وتسهيل حركة الأيدي العاملة والخبرات الوطنية بين دول المجموعة بما من شأنه تقليل الطلب على العمالة الوافدة، ورفع الكفاءة الإنتاجية للعمالة المحلية الناجمة عن المنافسة، لأن المورد البشري هو في النهاية يمثل أداة السياسات الاقتصادية وهدفها (24).

وينبغي كذلك معالجة الخلل في التركيبة السكانية الخليجية الناجم عن شق صفوف وهيراركية هذه المجتمعات بواسطة الطبقة الوسطى متعددة الجنسية، التي هي التجسيد الاجتماعي للعولمة الرأسمالية وهي الفئات التي أتت خلف الشركات المعولمة وسيطرت على الاقتصاد بطرق قانونية، وشكلت حالة استزلام واضحة متبلورة وبازغة، وهي من الخطورة بحيث إنها تعمل في مجالات العصب الحساس من المجتمع، وتتحكم في الأمن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وهي في الغالب غير وطنية (عابرة للحدود) وتعمل في مؤسسات وأنشطة متعدية الجنسية (شركات عالمية، صناعية، تجارية، خدمية، منظمات المجتمع المدني غير الحكومية ذات الأجندات العالمية)، شركات السياحة الكبرى، شركات البرمجيات العالمية، وهؤلاء يتمتعون بميزات تنافسية هائلة، مثل: الاستقلال النسبي في اتخاذ القرار، الهيمنة على القرارات /التوجهات، الوعي بالاستراتيجية، التواصل عالمياً عبر وسائط متعددة أهمها اللغات الأجنبية وشبكات الإنترنت، وكل هذه التحولات تستدعي حكماً التطوير في التعليم ومجال التدريب، وتوفير الخبرات الكفوءة لاقتحام أسواق العمل وفق آلياتها في ظل تقلص فرص التوظيف، من ثم يمكن الحد التدريجي من الضغوطات السياسية والاجتماعية الناجمة عن البطالة، وعدم وجود آليات حقيقية للتعاون الخليجي في مجالات العمل والخدمة المدنية (25).

ظهرت في المراحل الأولى بعض التخوفات من العمالة العربية، لناحية نقل الصراعات الإيديولوجية القائمة في الدول العربية إلى دول مجلس التعاون الخليجي، مما أدى إلى الاعتماد بكثافة على العنصر الأجنبي. لذا فإن إعادة النظر في هذه السياسية هي في النهاية تعزيز للهوية العربية ذاتها. فالعمالة العربية أقرب إثنياً ودينياً ولغوياً، وأسرع اندماجاً من مثيلاتها الأجنبية في المجتمعات الخليجية، وأكثر ولاءً لمحيطها العربي الكلي. كما أنها تمثل عامل ثقل ديمغرافي عربي، في مواجهة أية محاولات دولية قد تُفرض على دول مجلس التعاون الخليجي في قضايا التوطين والتجنيس والحقوق السياسية للعمالة الوافدة، بل إن المجتمع الدولي لن يدفع باتجاه ذلك في حال كانت الأكثرية السكانية العاملة هي من دول عربية مجاورة، وذات انتماء إسلامي. في المقابل أظهرت أحداث الانتفاضات العربية تعلق المواطنين العرب بامتدادهم الهوياتي في دول الخليج العربي، فاستندوا له، خاصة في مصر وسورية واليمن والبحرين، تأكيداً على مفهوم الأمة العربية.

كما يمكن اعتماد شرط إتقان اللغة العربية، وإن لم تكن لغة العمل الأساسية، أسوة بكافة الدول المستقبلة للعمالة والمهاجرين. وعدم إطلاق إمكانية التملك، بل حصرها بعقارات محددة، على سبيل التأجير طويل المدى، وتثقيل العنصر العربي فيها.

 

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث 

 

مراجع:

(1) عمر هشام الشهابي، “اقتلاع الجذور: المشاريع العقارية وتفاقم الخلل السكاني في مجلس التعاون لدول الخليج العربية”، المستقبل العربي (بييروت:مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 400، يونيو 2012)، ص 8.

(2) المرجع السابق، ص 9.

(3) باقر النجار، “العمالة الأجنبية وقضايا الهوية في الخليج العربي”، مجلة عمران (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، نسخة إلكترونية، العدد 3، شتاء 2013)، ص 8.

(4) باقر النجار، الاحتياجات المستقبلية لأسواق العمل الخليجية في الموارد البشرية والتنمية في الخليج العربي (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2009)، ص 97

(5) باقر النجار، “العمالة الأجنبية وقضايا الهوية في الخليج العربي”، مرجع سابق، ص 6.

(6) المرجع السابق، ص 7.

(7) “تقرير: دول الخليج لا تلتزم بنسبة العمالة الوافدة”، العربية نت، 16/11/2013: http://www.alarabiya.net.

(8) علي أسعد وطفة، “العمالة الوافدة وتحديات الهوية الثقافية في دول الخليج العربية”، المستقبل العربي، العدد 344، أكتوبر 2007، ص 74.

(9) عمر هشام الشهابي، مرجع سابق، 14.

(10) علي أسعد وطفة، مرجع سابق، ص 74.

(11) ديبا حيدر، “آلام دبي المتنامية: مدينة تبحث عن هويتها”، المستقبل العربي، العدد 397، مارس 2012، ص 120.

(12) عمر هشام الشهابي، مرجع سابق، ص 10.

(13) باقر النجار، “العمالة الأجنبية وقضايا الهوية في الخليج العربي”، مرجع سابق، ص 3.

(14) علي أسعد وطفة، مرجع سابق، ص 70-71.

(15) عمر هشام الشهابي، مرجع سابق، ص 11.

(16) المرجع السابق، ص 13.

(17) “تقرير: دول الخليج لا تلتزم بنسبة العمالة الوافدة”، مرجع سابق.

(18) عمر هشام الشهابي، مرجع سابق، ص 13.

(19) أحمد صبحي خليفة، “الشرطة السعودية تشتبك مع عمال أجانب بالرياض مع بدء حملة أمنية”، وكالة رويترز، 10/11/2013: http://ara.reuters.com.

(20) علي أسعد وطفة، مرجع سابق، ص 76.

(21) المرجع السابق، ص 77.

(22) جاسم يونس الحريري، “مستقبل الحكومات الخليجية بعد الربيع العربي”، المستقبل العربي، العدد 410، إبريل 2013، ص 50.

(23) باقر النجار، “العمالة الأجنبية وقضايا الهوية في الخليج العربي”، مرجع سابق، ص 18.

(24) فتحي العفيفي، “الخليج العربي: الكونفدرالية وهيكلة السياسات الراديكالية .. دراسة في التاريخية البنائية”، المجلة العربية للعلوم السياسية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 15، صيف 2007)، ص 25.

(25) المرجع السابق، ص 25.

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق